2016-06-30 الساعة 04:25م
حين كان صوته يطلع من غرفة مكتبه قائلا وبقوة: ياولد. كانت المدرسة ترقد في مكانها.يدخلها زائر ليخالها سكنا للأشباح. حيث لا صوت ولاحركة ولاتلميذ هارب من حصة الرياضيات أو العلوم.الجميع في مكانه. الأساتذة في فصولهم والتلاميذ على كراسيهم.يكفي وجوده في المدرسة كي تُعلن حالة طوارئ معلنة أصلاً.
بابريك. أو محمد ناصر فضل بابريك. أو المدير. أو الأستاذ. أو أبرز شخصية يمنية،بحسب استفتاء جريدة"يمن تايمز" العام1985. هو كل هذا وأكثر.هنا قراءة شخصية في سيرة الأستاذ صاحب الصوت ذو البحة المميزة، ومدير مدرسة 26سبتمبر التي كنت تلميذا فيها طوال سبع سنوات من عمري.
(1)
تحتاج الكلمات،هنا لأقل قدر ممكن من الحنين.التخفف منه قدر المستطاع. وهذا كي لا تذهب في النحيب والأسى التام.وهذا كي تذهب إلى الهدف مباشرة،قول ماينبغي، بعد كل هذا العمر، عن شخصية إشكالية مثلت حالة تربوية فريدة وتسكن في مربع لوحدها.بل جعلت من نفسها وزارة تربية وتعليم لحالها تقوم بإدارة المدرسة بالشكل الذي تراه ملائما. وعليه، كان يكفي أن تقول أنا تلميذ في مدرسة 26سبتمبر حتى يُعرف أنك تلميذ في مدرسة محمد ناصر فضل بابريك. وهذا على الرغم من كل الأسئلة التي يمكن أن يطرحها سر هذه السلطة المطلقة التي كانت له ومن أين استقى مصدرها. (يمكننا عبر تفسير شخصي بحت ردّ كل هذا إلى وقوع هذه الفترة التي نتحدث عنها متقاطعة مع فترة حضور مدراء مكتب تربية في الأمانة وكذا وزراء تربية وتعليم،نذكر منهم الاستاذين محمد الجائفي وأحمد الآنسي. كل هؤلاء أتاحوا لمحمد بابريك مساحة واسعة للتحرك بما لا يتعارض مع الإطار العام للسياسة التربوية والتعليمية لهما.بل وما هو أكثر وخصوصا خلال وزارة أحمد الآنسي الذي أخذ بعضا من أنظمة المدرسة وقام بتعميمها على مدارس الجمهورية).
(2)
بمعنى ما،كانت مدرسة 26سبتمبر مدرسة نموذجية،أو معمل اختبار لتنفيذ الخطط التعليمية ومعرفة مدى ملاءمتها للتلاميذ على اعتبار ان النظام الصارم الذي كان يسيّرها هو بيئة ملائمة للوصول الى نتائج ومؤشرات صحيحة يمكن الاعتماد عليها فيما يُخطط لتنفيذه وتعميمه بعد ذلك.
وربما نستطيع هنا تفسير ولادة هذه الثقة بين إدارة المدرسة وبين القيادات الوزارية أن مدرسة 26سبتمبر كانت المدرسة الوحيدة التي تتعامل مع التغييرات المنهجية والإدارية التي كان يتم تعميمها على مدارس الجمهورية من قبل وزارة التربية والتعليم،تعاملا جادا غير قابل للتهاون او النكوص مع مرور الوقت عليه،كعادة الأشياء لدينا.تلتزم المدارس بما يتم تعميمه من تغييرات لفترة بسيطة من الوقت،لكن ما يلبث أن يمر وقت عليها حتى تعود الأشياء إلى سابق عهدها وكأن شيئا لم يكن.كانت إدارة مدرسة 26سبتمبر من خلال قيادة الأستاذ محمد ناصر بابريك، هي الوحيدة التي تظل ملتزمة بما تم إقراره حتى صدور ما يعمل على نقضه. لم تكن المسألة هنا متروكة لضغط عامل الملل أو المزاج.يتم الالتزام فقط بما تم إقراره.وهنا أمثلة:
- قرار تقديم بداية اليوم الدراسي من السابعة والنصف صباحا على أن يكون الطابور المدرسي الصباحي (الذي كان مقدسا في مدرسة 26سبتمبر)، في السابعة. وقد كان هذا على الرغم من قسوة الجو وصعوبة الاستيقاظ التي يلاقيها التلميذ نتيجة له.
- قرار تبديل النظام الوقتي للمدارس بما يقول بضرورة التناوب الفصلي بين تلاميذ الفترتين.بمعنى أن يكون الفصل الدراسي الأول صباحا للتلاميذ الدارسين مابين مرحلة الصف الخامس الابتدائي والثالث الإعدادي.على أن يكون الفصل الدراسي الثاني صباحا للتلاميذ الدراسين مابين الصف الأول الابتدائي والصف الرابع الابتدائي والعكس.وقد تم الالتزام بهذا القرار دونا عن المدارس الأخرى على الرغم من الأذى النفسي الذي ألحقه فينا حيث كنا نعتبر أن الدوام الصباحي ميزة لنا ودلالة على بلوغ نضجنا،كما حرم هذا القرار كثير من التلاميذ من الذهاب عصرا نوادي الكرة التي ينتمون إليها.
ولكنه بابريك الذي لا يعترف بغير النظام والالتزام به.(أتذكر هنا حادثة لا يمكنني نسيانها كانت لي من تبعات هذا القرار،وأنا لاعب الكرة الناشىء وقتها.حيث كانت تقام تصفيات كأس العالم لكرة القدم المؤهلة لمونديال المكسيك1986 وكان أن وقعت اليمن في مجموعة الكويت والسعودية،وحين جاء موعد المباراة المرتقبة بين اليمن والسعودية في صنعاء،كان هذا القرار يقف أمامنا بالمرصاد وخلفه محمد ناصر بابريك الذي قال:أن على التلاميذ الذين سيتغيبون في ذلك اليوم أن لا يلوموا غير أنفسهم.
وكنا نعلم جيدا أن بابريك لا يهدد وإنما ينفذ.في ذلك اليوم كانت نسبة الحضور بين التلاميذ كأي يوم عادي في حين اضطر التلاميذ الذين تخلفوا عن الحضور تقديم ما يثبت أن غيابهم كان لسبب قاهر وليس عذرا لحضور مباراة السعودية واليمن،التي خسرت المباراة، كعادتها صفر/ واحد سجله اللاعب أحمد جميل).
لكن وبالمقابل، لم يكن الأستاذ بابريك موفقا في بعض القرارات من ناحية الالتزام الحرفي بها ومنها قرار الزي الموحد لتلاميذ المدارس وهو القرار الذي تم التحايل عليه في المدارس الأخرى في حين التزمت مدرسة سبتمبر به،على الرغم من ردائته وعدم ملائمته لتلاميذ وصلوا سنا عمرية تدفعهم للعناية بنوعية ملابسهم بما يمنعهم من التعرض للإحراج والشماتة خصوصا وأن موقع المدرسة يتوسط مدرستي بنات ومدرسة أهلية بما في هذا من تعاظم للأذى النفسي الذي يصيب التلاميذ الذين كانت هيئاتهم وهم بداخل الزي البائس أشبه بنزلاء سجن مركزي ويقضون عقوبتهم المفترضة.
(3)
ومن النقاط التي لا يمكن إغفالها في سيرة الأستاذ محمد ناصر بابريك نظرته المتساوية لكافة المواد الدراسية التي تحتل الجدول المدرسي وإصراره على إنزال مواد كالرسم والموسيقى كمواد أساسية لها أساتذة متخصصون وأصحاب كفاءة عالية.
(للقارئ أن يتخيل قوة الأثر التي تفعله مثل هذه المواد في عقل التلميذ المتقبل لاستيعاب أي شيء في تلك السن وخاصة لو كان هذا عن طريق أستاذ نجيب ومقتدر لا يزال اسمه في ذاكرتي على الرغم من كل هذه السنوات التي مرت.وهو الأستاذ المصري الجنسية عبدالحميد اللقاني. إن أي أستاذ يستطيع أن يُبقي اسمه حاضرا في ذاكرة تلاميذه كل هذا الوقت الطويل،لهو اسم جدير أن يبقى فعلا).وعندما أقول حصة موسيقى لا أقصد الإنشاد وما يرافقه من أدوات كالدف،ولكن حصة موسيقى بها كافة الأدوات الموسيقية المتعارف عليها من عود وغيتار وأوكرديون وساكسفون. محمد ناصر بابريك كان يقوم بتوفير كل تلك الآلات الموسيقية لتلاميذه.وعليه لم يكن يمر عام إلا ويحصد فريق المدرسة المركز الأول على مستوى العاصمة في مسابقات الموسيقى التي كانت تقام بين تلاميذ المدارس.
ولم يكن هذا التفوق منفصلا عن التفوق الدراسي اللافت الذي كان ملموسا في عدم خلو لائحة نتائج الإعدادية العامة على مستوى الجمهورية من اسم أو اثنين من تلاميذ المدرسة. في العام1987 تمكن خمسة تلاميذ من الحصول،دفعة واحدة على مكان لهم في تلك اللائحة الذهبية بما يمكنهم هذا من الالتحاق بثانوية عبد الناصر الشهيرة التي لم تكن تقبل بسهولة أي قادم جديد إليها ماعدا أولئك القادمين من مدرسة 26سبتمبر.كان الأستاذ عبدالوهاب جولة، مدير ثانوية عبدالناصر يعلم تماما أنه عندما يقبل تلميذا من مدرسة سبتمبر فإنه يضمن بهذا مكانا في لائحة الطلاب الذين سيٌعلن عن أسمائهم،بعد سنوات ثلاث كحاصلين على مرتبة من بين العشرة الأوائل على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة.
(4)
ونأتي الى جانب آخر من الصورة، صورة الأستاذ محمد ناصر بابريك. مسألة القسوة التي اُشتهر بها بين كل من عرفه أو درس في مدرسته.لا أُنكر هنا أني من جملة تلاميذ لاقوا على أيديهم وعلى أجزاء متفرقة في أجسادهم ضربا لا يُنسى بسهوله على يديه.كيف يمكن حساب التفوق الذي كان يحرزه تلاميذ المدرسة مع أشكال العقاب الذي كانوا يلاقونه؟ لا يستقيم الأذى الجسدي مع نفسيات تلاميذ صغار. لكن كان يبدو أن لبابريك وجهة نظر أخرى.العقاب لمن يستحق والتكريم والاحتفاء أيضا لمن يستحق.،وقد كانوا كثرا.حيث كان يبالغ في الاحتفاء بهم.من وجهة نظري أنه كان يقصد،وربما من حيث لايحسب تقديم دفعة لأولئك التلاميذ المُعنفين على طول الخط كي يصلوا لمرتبة زملائهم المحُتفى بهم دائما.وعلى الرغم من موقفي المضاد إجمالا بالنسبة فيما يخص استخدام العنف مع التلاميذ،إلا أن الغريب أن هذا كان يُعطي نتائجه مع الأستاذ بابريك.
لكن ما كان يجعل التلاميذ في حالة رضى منه على الرغم من كل ذلك العنف الذي كانوا يلاقونه على يديه إلا أن هذا كان يهون بسبب من أنه كان لايفرق بين تلميذ وآخر في هذا حتى مع ابنه بلال الذي كان يلاقي مثلما كنا نلاقيه وربما أكثر. كان يبدو أن شخصية المدير بابريك لا تنفصل عن شخصية بابريك الأب.
(اليوم صار بلال محمد ناصر فضل بابريك،بعد أن تحصل على بكالوريوس إعلام من جامعة القاهرة،صار واحدا من أهم الكُتاب الصحفيين هناك وكاتبا سينمائيا شهيرا يمتاز بحس سخرية عال.ربما يعود هذا لنشأته الأولى على يد الأستاذ بابريك،والده).
لكن وبالتوازي،كان الأستاذ بابريك يضعنا في حالة كبيرة من الحيرة وذلك عندما كان يخرج معنا في الرحلات المنتظمة التي كانت تقيمها المدرسة لنا. نخرج يوم الجمعة في رأس كل شهر بصحبته وبصحبة مدرسينا إلى منطقة قريبة من صنعاء لنقضي اليوم كاملا هناك.ونظل في ممارسة كل ما يحلو لنا من لعب ومسابقات ثقافية وأناشيد وسباحة،في الأماكن التي تتوافر فيها الإمكانية، وكذلك في الطبخ،حيث كان الأستاذ ماهرا في هذا.ماكان يدهشنا طوال هذا اليوم الحلو هو الابتسامة التي لم تكن تغادر وجهه.لكأنه خُلق بها.ونحن الذين كنا نظن،لاستدامة حالة العبوس والتجهم التي تلازمه في المدرسة أنه لا يبتسم ولا يعرف طريقا للابتسامة.كانت حالته تلك تضيف الى رحلتنا نكهة أُخرى،كانت ابتسامة وددنا لو استمرت على طول ونحن نراه شخصا آخر غير الذي يلازمنا كظلنا في المدرسة.
لكن كل هذا كان يتبخر عندما يكون السبت، ويكون طابور الصباح الذي كان سباقا لحضوره قبل الجميع.فلا نعود نرى لتلك الابتسامة ولا لذلك الشخص الذي كان معنا البارحة.لا نرى أمامنا غير الأستاذ محمد ناصر فضل بابريك، مدير المدرسة المختلف والمُثير لأكثر من حالة جدل.
(5)
من حالات الجدل هذه الكلام الذي كنا نسمعه من قبل كثيرين كانوا يتخذون من الأستاذ بابريك موقفا منحازا.ومعظمهم كان يعمل معه.أساتذة مصريون، كما وأساتذة يمنيين كانوا يقومون بتأدية واجب التدريس الإلزامي بعد الجامعة (بعضهم صار مدرسا بجامعة صنعاء).
كانوا يشيعون بشأنه أقاويل لم نكن نقدر على استيعابها في تلك الفترة وتخص الجانب الانتمائي في شخصية الأستاذ بابريك.حيث كان يقال أنه ينتمي عقائديا لتنظيم حزب الله المؤسس حديثا وقتها.وذلك من خلال إصراره على الجانب التوعوي الديني الذي كان ظاهراً،بحسبهم،في محاضرته الاسبوعية الصباحية كل يوم اثنين.وكذلك ارتباطه بأعضاء من الحركة الإسلامية في الجزائر وعلاقاته الشخصية بزعمائها كمحفوظ النحناح الذي قام بزيارته في العام1988 في الجزائر.
لكن والآن،عند إعادة تدوير مثل ذلك الكلام ومع اعتبار إن أي انتماء عقائدي هو حق له،على الرغم من التبعات السيئة لهذا الانتماء في ذلك الوقت عليه، إلا أننا كتلاميذ لم نكن نرى فيه تعمدا أو توجيه ناحية فكر ما أو طائفة.كان منهجه العقائدي مفتوحا وغير محدد برؤية مغلقة واحدة.وكانت المدرسة ضاجة بكافة الأنشطة التي تُعد في نظر معظم الأطر الإسلامية حراماً ولا يجوز التعامل معها،كالرسم على اشكاله والموسيقى والمسرح وعروض الفيديو التي كانت المدرسة تتيحها لنا.وحتى في تلك المحاضرات الأسبوعية التي كان يقدمها لنا لم تكن محاضرات مغلقة ومحصورة بفكر معين إن كانت حديثا حول مبادئ أساسية في الدين والعقيدة لا خلاف عليها عند كافة الاتجاهات الدينية ولم يكن ما يقوله لنا مغايرا لما نسمعه في التلفزيون أو في المسجد أو نقرأه في الكتب المعتدلة. كل ما كان يؤذينا في المسألة، هو إصراره على بقائنا تحت الشمس مستمعين له في طابور الصباح الاثنيني ذاك، على الرغم من امتلاكه لموهبة الإلقاء التي يُشهد له بها.
(6)
وبعد..
ما سبق كان محاولة لإلقاء الضوء على مدير مدرسة استثنائي ومقتدر ومبدع ومبتكر كما ومثير لأكثر من حالة جدل حوله وحول شخصيته.مدير مدرسة استطاع أن يجعل من مدرسته منشأة تعليمية مثلت حالة نادرة في المحيط التربوي حاول الكثيرون تقليدها لكنهم لم يستطيعوا إلى ذلك صبرا ووسيلة.وهذا لأن الطريقة التربوية والإدارية التي كان الأستاذ محمد ناصر فضل بابريك يتبعّها هي خلطة من مفاهيم وأسس جهد في تكوينها محتفظا بسرها له وحده.
وعليه، هي تحية واجبة له هنا.تحية تأمل أن توازي بعضا مما فعله لكافة التلاميذ الذين تخرجوا من تحت يديه واستطاع أن يجعل لاسمه في ذاكرتهم مكانا وزاوية.وأنا واحد منهم.
مقال للكاتب في صحيفة المصدر بتاريخ 15/09/2009