2017-07-11 الساعة 02:17ص
انهزم الحوثيون في جنوب اليمن، وحلت محلهم قوات التحالف العربي وأجهزة محلية مدعومة إمارتياً. لم تعمل الإمارات على استعادة السلطة البيروقراطية للدولة في المناطق المحررة، بل تسعى بوسائل عديدة لحصار السلطة المحلية ودفعها للتراجع. كما منعت دمج وحدات عسكرية كالحزام الأمني داخل نظام عسكري مؤسسي يتبع وزارة الدفاع. تمكن القادة العسكريون في تعز من تشكيل نواة لجيش وطني من قرابة ٣٠ ألف فرداً، دامجين كل حملة السلاح داخل كيان معرف، وقانوني. أنجز هذا الفعل الكبير تحت الحصار في تعز، وهو ما لم يحدث في عدن التي نالت حريتها قبل عامين من الآن.
حصلت الإمارات على أرض واسعة، وفي الواجهة عثرت على قادة شعبويين مستعدين للتنازل عن مسائل مركزية كالسيادة نظير حصولهم على أصدقاء خارجيين أقوياء. ينتشر العلم الإماراتي في الجنوب على نحو واسع، ويلتقط القادة الشعبيون صوراً لهم وإلى الخلف منهم العلم الإماراتي. نادراً ما سيشاهد العلم الإماراتي في الشمال، وبدلاً عن ذلك تحضر بدرجة أقل أعلام السعودية، وصور الملك سلمان. في الشمال سلمان، وفي الجنوب آل زايد.
يعتقد الشماليون إن سلمان سيضمن لهم الوحدة، ويعتقد الجنوبيون أن آل زايد سيضمنون لهم الانفصال. تعني مسألة وحدة الأراضي اليمنية العربية السعودية أكثر مما تعني الإمارات. لكن الانفصال والتشظي في الأراضي اليمنية هو أكثر ما تخشاه العربية السعودية. وقبل فترة قصيرة عبر مسؤولون سعوديون عن مخاوفهم قائلين إن القوة المنظمة الوحيدة في الجنوب هي القاعدة، وأن القوة الأبرز في الشمال هم الحوثيون، وهما خطران على الأمن القومي السعودي. فقد خاضت السعودية حربها في اليمن معتقدة أنها تدافع عن أمنها القومي ضد التواجد الإيراني. وهي غير معنية، بالمرة، بأحلام الساسة الجنوبيين، ولا بالمزاج الانفصالي، فالسعودية ليست منظمة لفعل الخير الشعبي، بل دولة تجري وراء مخاوفها، وتحاول معالجتها على طريقتها، وغالباً ما أودت بها تلك الطريقة.
انفصال جنوب اليمن لن يمنح السعودية أي كارت نجاح، فمشاكلها الأمنية ستبقى قائمة. في الشمال تكمن المعضلة السعودية المستدامة، وقد شاركت السعودية بطريقة أو أخرى في صناعة مشكلتها تلك على مر الأيام، منذ مناهضتها ظهور دولة جمهورية ذات طبيعة دستورية. أما جنوباً فثمة أرض واسعة وجدت فيها التنظيمات الإرهابية معسكراً مفتوحاً ومخبأ. فخلال العشر سنوات الماضية كانت القاعدة هي الظاهرة الأكثر ديناميكية في الجنوب.
وخلال فترات معينة كانت تسيطر على المسافة الممتدة من أبين إلى شبوة. في وثيقة أميركية تعود إلى العام ٢٠٠٩، كما نشرها ويكيليكس، يذهب الانطباع الأميركي إلى الاعتقاد بأن الجنوب، بشكل عام، يمثل مكاناً مناسباً لنشوء القاعدة لأسباب اجتماعية ودينية وجغرافية كبيرة. ومؤخراً أخبرني مسؤول حكومي يمني يقيم في الرياض إن الأميركيين يسمِعون حلفاءهم الخليجيين هذا الكلام من وقت لآخر، ويؤكدون عليه. وهو تصور تكترث له السعودية.
تخدع الإمارات رجالها وحلفاءها في جنوب اليمن وترمي أمامهم بـ "نصف استقلال". يظهر القادة الجنوبيون في مواكب عسكرية مهيبة تحصل على اعتمادها المالي من الإماراتيين، وهو ما يجعلها مرتهنة كلياً للتكتيك الإماراتي. وقد تعمد الإمارات إلى حل التنظيمات العسكرية التابعة لها في الجنوب، دافعة إياها إلى التحلل والتفكك خلال ساعات، إذا ما تغيرت قواعد الاشتباك، وقررت الإمارات أن تهجر المشهد اليمني. يحدث ذلك في العادة عندما تكون الكلفة التي يتطلبها مشروع كولونيالي عابر للحدود أكبر مما يحققه من نفع. ليس ثمة من سبب يجعلنا نعتقد أن الإمارات قد تكون استثناءً تاريخيا.
لا يملك القادة الشعبويون في جنوب اليمني من وسيلة لإعالة تنظيماتهم المسلحة سوى الحقيبة الإماراتية، وذلك ما يجعل من تلك التنظيمات حتى الآن كيانات متعقلة. فثمة من يضمن الموضوع المالي أولاً، ويكيف حركة ومواقف تلك التنظيمات بما يخدم الصورة النهائية لحرب السعودية في اليمن، أو لا يضر بها. ولأنها تنظيمات تعيش، بصورة شاملة، خارج نظام الدولة، أو في دولة موازية، فإن تلكؤ الداعم الدولي عن الإيفاء بالتزاماته المالية سيدفع تلك التنظيمات إلى طريق العصابات لتصير وبالاً على نفسها ومدنها. ذلك ما تحاول الإمارات، راهناً، تفاديه، فلا تزال أحلامها اليمنية قابلة للتصديق.
تشكل الدولة صمام الاستقرار الوحيد، لكن دولة مستقلة في اليمن لن تعني الإمارات في شيء. لا تزال الإمارات ملتزمة بحدود الخدمة التي أسدتها إلى السعودية في حربها اليمنية. ثمة معادلة حرجة بين الطرفين، القادة الشعبويون في الجنوب والإمارات. فالإمارات بحاجة ماسة لخدماتهم جنوباً، وهم كذلك بالمقابل. لكن ما يريده كل طرف، في نهاية المطاف، ليس هو ما يريده الطرف الآخر، وتلك معضلة حقيقية. لا تريد الإمارات، كما يؤكد السعوديون، فصل جنوب اليمن عن شماله، لكنها لا تصارح رجالها في الجنوب بهذا الموقف. فهي تبقيهم إلى جوارها، محتفظة بحماسهم وشهيتهم، لتمارس من خلالهم لعبتها المعقدة. في نهاية المطاف قد تسلمهم الإمارات إلى أحمد صالح.
إن دولة يمنية موحدة هي مسألة تقع في صميم التفكير "الأمني" السعودي، بصرف النظر عن طبيعة تلك الدولة. ثمة شرط وحيد على تلك الدولة الإيفاء به: الدخول الطوعي والسلس في المجال الحيوي السعودي. فقد تعرض صالح، كما يروي سكرتير سابق له، للمساءلة من قبل السفير السعودي صالح الهديان عندما أجرى تعديلاً حكومياً مطلع الثمانينات. هذا الهاجس السعودي هو ما تعمل عليه الإمارات حالياً. فهي تتحرك في مجال التفكير السعودي باعتبارها المالك الوحيد للورقة الجنوبية، والقادر على توجيه المزاج الشعبي وفقاً لتكتيكها. ذلك ما يجعل السعوديين نِصفَ مطمئنين إلى الفعل الإماراتي اليومي في جنوب اليمن. فالإماراتيون يردون بكلمات قليلة عن الأسئلة السعودية حول ما يجري في الجنوب: دع المساكين يستمتعوا قليلاً.
على السعودية أن تقنع الجزء الشمالي من اليمن بعودة نجل صالح إلى الحكم، يطرح الإماراتيون. أما ورقتهم الكبيرة فكالتالي: سنضمن موافقة الجنوب، وموافقة المؤتمر الشعبي العام. يشعر السعوديون بلزوجة الأرض اليمنية، وخطورتها، وهم يبحثون عن مخرج من تلك الحرب الملعونة. يبدو العرض الإماراتي مغرياً، أما المعاوقة الكبيرة التي قد تصدر عن حزب الإصلاح فيمكن إبطال مفعولها عبر التلويح بقائمة الإرهاب. في نهاية المطاف سيقبل حزب الإصلاح العودة إلى دولة يحكمها نجل صالح، فالبديل بالنسبة للحزب الإسلامي الكبير مروعاً، وباهض التكاليف. يعتقد السعوديون أن الحوثيين ستخور قواهم سريعاً، إذا ما تخلى عنهم صالح وجيشه، وتحالفاته الداخلية.
أجادت الإمارات لعبتها، فيما يبدو. وقد حصلت على الرضا الأميركي الكبير عندما تمكنت من هزيمة القاعدة في حضرموت. من خلال نجل صالح ستتمكن الإمارات من استثمار الموانئ والجزر كما تخطط. فإسبرطة الجديدة ليس لولعها بالبحار من حد.
داخل صيغة معينة تحقق قدراً من الرضا لدى كثير من الأطراف الداخلية، قد تصبح فكرة تنصيب نجل صالح حاكماً فكرة معقولة عملياً. فهو سيكون رجل الإمارات، ورجل السعودية، ورجل أميركا، ورجل المؤتمر الشعبي العام، والرجل الذي منح الجنوبيين قدراً واسعاً من الحكم الذاتي، والرئيس الذي بمجرد تسلمه الحكم نزل السلام على الأراضي اليمنية الممزقة. يتمتع مثل هذا التدبير بقدر كبير من الواقعية السحرية، وتحت مستويات معينة من الضغط سيصبح ممكناً عملياً.