2020-06-04 الساعة 05:13م
بقيام الدولة اليمنية في الجنوب ارتفع سقف التوقعات لدى الحضارم – وسكان محمية عدن الشرقية بشكل عام- في تبني الدولة الجديدة لخطة تنمية شاملة تستوعب موارد البلاد الواسعة من الثروات وتوجيه الامكانات المهدرة في الصراعات البينية- قبل الثورة- لتحقيق الاستقرار المنشود، وكانت حضرموت وعدن تشكلان ثنائي متقدم من حيث البنية المؤسسية لقاعدة الحكم الجديد، وواحتين حضريتين في محيط قاحل من حضور الدولة، فقير من الموارد قليل استعداده لتقبل ثقافة المدنية والحداثة التي بشر بها العهد الجديد.
غير ان الصراعات التي سرعان ما تفجرت في قيادة التنظيم الحاكم- الجبهة القومية - ورئاسة الدولة اودى بكل هذه التطلعات وقتل حلم التحرير والاستقلال والتنمية في مهده. فدخلت الدولة الحديثة النشأة في اتون دورات صراع متوالية لا تكاد تخمد حتى تثور بشكل اعنف، حد وصف المحضار (كلما استمر الزيّب جاء عاكر وطوفان) فغرق المركب او كاد، وفرد الناجون اشرعتهم صوب صنعاء.
فتتجمع السيول هناك كمخزون احتياطي لطوفان ينفجر لاحقاً في ثنائية ثأرية بلا أفق. ارتبطت حضرموت في هذه المرحلة بعدن بشكل رسمي بروتوكولي منزوع الدسم، فالحضارم الذين كانوا يعيشون في حرية سياسية نسبياً -أطلقت السلطنة القعيطية قانون الحريات مطلع الستينات- وانفتاح اقتصادي ناهيك عن حرية السفر والاستثمار أينما شاؤوا، أغلقت أمامهم هذه النوافذ بعد إصدار قوانين التأميم ونزع الملكية والإصلاح الزراعي ومنع السفر، ولأنهم يميلون للأعمال الحرة والتعمير والبناء والهجرة، لم تشكل لهم الوظيفة الحكومية والتجنيد الإجباري أي حافز.
فهرب آلاف الشباب بحثاً عن العمل في الجوار الخليجي، بعد أن غادرت عدن عشرات البيوت التجارية المرموقة وأرباب الوكالات الأجنبية، بحثاً عن الأمان لتجارتهم في دول الجوار الخليجي أو دولة الشمال اليمني التي كانت تعيش استقراراً نسبياَ وسوقاَ متعطشة لجذب الاستثمارات والخبرات الفنية والصناعية.
حتى تطوير قطاع التعليم- الذي يعد أهم مفاخر الدولة في الجنوب- أصبح نتيجة قتل النشاط الاقتصادي والتجاري، مجرد مكنة تفقيس للكوادر المؤهلة المهاجرة لسوق العمل في بلدان الاغتراب الجديدة.
ونتيجة لهذه السياسات الخاطئة هاجرت معظم الكفاءات الحضرمية خارج البلد، ولم ينتقل للعاصمة عدن إلا أفراد قلائل ممن ارتبطوا بمناصب قيادية في الحزب و الدولة، وحتى هؤلاء لم يستصحبوا معهم أياَ من قراباتهم أو عائلاتهم الأوسع لترتيب وضعهم المعيشي هناك، للأسباب التي سبق شرحها، وطبيعة الشخصية الحضرمية العصامية التي تشق طريقها بعيداً عن محسوبيات الولاءات العائلية أو العلاقات المصلحية الضيقة وهذا ما يفسر ندرة الضحايا الحضارم في صراعات عدن، ومن مفارقات المشهد الجديد ان الحضارم كانوا اكثر حضورا وتأثيرا في(مستعمرة عدن) ونشاطها الاقتصادي اكثر منه في (عاصمة دولتهم) الجديدة.
وخلاصة القول: إن تدخل الدولة واحتكارها لكل الأنشطة الاقتصادية وتداعيات قوانين التأميم التي أشرنا إليها، قضت على كل فرص القطاع الخاص لمصلحة القطاع العام في ظل نظام الإقتصاد الموجه بمضامين اشتراكية لا تحترم الملكية الخاصة، صحيح أن الدولة قد شيدت طريق معبدة بين عدن وحضرموت وسيرت اليها رحلات جوية من الريان وسيئون والغيضة وعتق، غير أن ذلك لم يخلق تنمية حقيقية تربط المناطق الشرقية بغرب اليمن من خلال مشاريع اقتصادية عملاقة فالمواطن هدف التنمية أصبح عنصراً محايداً في العملية الإنتاجية، هذه المنظومة التي لم تراعي نوازع البشر الفطرية للتملك، قتلت روح المنافسة والإبداع، من خلال بيروقراطية شديدة لإدارة جيش من الموظفين، حتى أرباب المهن الحرة صاروا موظفين في تعاونيات النجارين والفلاحين والصيادين. كل ذلك وغيره- كبت الحريات وسطوة العنف الثوري- أغلق فرص المناورة أمام الحضارم – أكثر من غيرهم- وأحرمهم ميدان نشاطهم الذي يتميزون فيه.
فباتت الهجرة السرية -في ظل قانون حضر السفر- المنفذ الوحيد أمامهم، وكانوا على موعد جديد مع صنعاء هذه المرة –لاأسباب يطول شرحها- كمحطة عبور، بل كمواطنين تابعين للجمهورية اليمنية الشمالية- وليست الجنوبية- ، لاعتبارات سياسية اعطت لجوازات صنعاء ميزات تفضيلية في دول الجوار....يتبع