لقد سبق الوجود البريطاني في عدن محاولات أوربية للنزول في شواطئ حضرموت, وابرزها ما عرف في التاريخ بالاحتلال البرتغالي للشحر، وبعض الدول الحضرمية حاولت الاتصال بالسلطنة العثمانية لتفادي وصد موجات الغزو الغربي، بحسبهم- العثمانيون- خلافة اسلامية ولهم وجود عسكري وسياسي في اليمن والحجاز، يمكنهم من النجدة بشكل اسرع. وهذه الاطماع الاستعمارية ترجع للأهمية الجيوسياسية للمنطقة كما اسلفنا في الحلقة الاولى من هذه المقالة(حضرموت البعد الثالث). بنزول الانجليز في عدن وتمكين قاعدتهم هناك، اصبحت حضرموت وشرق اليمن في قلب المجال الحيوي للمصالح الاستعمارية- الهند وشرق افريقيا وفارس وساحل عمان والخليج العربي- بل ان المهاجرين الحضارم في جزر الهند الشرقية كانوا محل اهتمام الادارة الاستعمارية ومراقبة سلوكهم وموقفهم من المستعمر الجديد وانعكاس ذلك على موطنهم الاصلي بحضرموت خاصة وانهم قد انخرطوا بشكل كبير في حركة مقاومة الاستعمار الهولندي في الارخبيل الإندونيسي. ولهم جالية كبيرة في الهند اصبحت لاحقا –بنفوذها واموالها- عامل رئيس لتأجيج الصراع على السلطة في حضرموت, ومستعمرة عدن رُبيطت بالإدارة البريطانية في بومباي مباشرةَ. لكن اتصال حضرموت بعدن ابعد من هذا التاريخ بكثير، فكاتب تاريخ (ثغر عدن) الطيب بامخرمه عاش في القرن الخامس الهجري الحادي عشر الميلادي. والحضارم اجتازوا البحر الاحمر للبر الافريقي من زمن قديم ولا شك ان عدن كانت محطة مهمة في هذه التغريبة الحضرمية. غيران مانحن بصدده من أثر لهكذا علاقات في صياغة تصور مشترك لمستقبل اليمن الحديث يجعلنا نركز اكثر على شبكة العلاقات ذات الصلة الوثيقة والمباشرة ببداية تشكل الدولة القطرية في اليمن الحديث.
وفرت الادارة الاستعمارية بعدن مناخ لحركة تجارية واسعة من خلال قطاع الخدمات الاساسية في المصافي والمطار والميناء. فوجد الحضارم وجهة جديدة للاستقرار والاستثمار. وساهمت موجات النزوح من شرق افريقيا هروبا من تفشي العنف العنصري ضدهم كوافدين – بعض الدول العربية وقفت خلف هذه الاعمال العدائية ضد الحضارم – في مضاعفة اعدادهم بعدن، وبرزت منهم بيوت تجارية مرموقة على مستوى اليمن والجزيرة والخليج. وكانوا الحضارم وابناء يافع والحجرية اكبر وانشط المجموعات اليمنية بعدن، وشكلوا مع رجال الادارة والاعمال الهنود وبقية الجاليات الاجنبية مجتمع عدن المدني المتجانس الى اليوم.غير ان اكتساب الجنسية العدنية مؤخرا صار متعسرا على الحضارم القادمين من مقاطعات حضرموت والمشرق كما هو حال سائر اليمنيين من بقية المحميات او القادمين من اراضي الدولة المتوكلية في الشمال. هذه الاجراءات الاستعمارية التعسفية ضد اليمنيين من خارج عدن، خلقت لديهم مظلومية مشتركة وشعور مرير بالغبن داخل وطنهم، تخلقت من رحم هذه المعاناة قضية مشتركة – لا يعني ان هذه الحالة وحدها تكفي لتفجير الثورة لكنها صنعت نقطة فارقة لمفهوم السيادة الوطنية- جديرة بالنضال والكفاح من اجلها. لذلك يرصد المراقب وضوح اهداف الحركة الوطنية اليمنية في عدن منذ لحظة تخلقها, من حيث انها معبرة عن تطلعات كل اليمنيين. وانخرط في صفوفها اليمنيون جميعا دون أي اعتبار للبعد المناطقي او الجهوي. وفي الخارج انتسب وتنظم الطلبة اليمنيون في الحركات القومية والاسلامية في بيروت وبغداد ودمشق والقاهرة والخرطوم وعواصم الكتلة الشرقية لاحقا، بصفتهم يمنيون ويمنيون فقط. وجد الحضارم انفسهم في طليعة الحركة الوطنية بعدن بل روادها باختلاف تياراتها السياسية ومشاربها الفكرية -الحبشي والصافي والجفري وعلي عقيل بن يحي وباقيس وثلاثي الباذيب وباسنيد وباسندوه والبيض والعطاس وخالد عبدالعزيز وغيرهم كثير- ورغم انه كانت هناك ارهاصات ووعود بريطانية باستقلال سلطنات حضرموت مطلع العام 1968م، الا ان رجال(الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل) حسموا مستقبلها مع الجمهورية اليمنية الجنوبية الفتية من لحظة سقوط مدينة المكلا في ايديهم قُبيل اعلان الاستقلال الوطني من عدن رسميا في 30 نوفمبر 1967م. ومٌد السيم من صيرة الى سمعون، وانتظمت فيه ست وحدات ادارية اخذت حضرموت رقم الكابينة الخامسة على الترتيب الجغرافي...يتبع