أهم الأخبار
توفيق الحميدي

توفيق الحميدي

الدولة هي قضيتنا الأولى

2024-08-19 الساعة 05:40م

في الغرب، لعبت الفلسفة دورًا أساسيًا في تطوير نظرية سياسية تعيد تشكيل العلاقة بين الحاكم والشعب، وهي نظرية أدت إلى تحرير السلطة من احتكار الملوك والكنيسة، ومنحت الشعب السيادة الحقيقية في التعاقد والمساءلة. أسس هذا التحول لنشوء الدولة الحديثة بخصائصها المميزة، مثل التمايز الوظيفي والبيروقراطية، كما أرست مبادئ حقوق الإنسان، لتصبح حماية الحريات وضمان حقوق الأفراد الوظيفة الأساسية للدولة. وكما قال الفيلسوف جون لوك: "السلطة الشرعية للحكومة تنبع من موافقة المحكومين"، وهو ما يمثل تحولًا جوهريًا في فهم دور الدولة ومسؤولياتها.
 

على النقيض من ذلك، نجد أنفسنا في العالم العربي منذ أكثر من 1300 عام ندور في حلقة مفرغة من الحديث عن الإصلاح الفردي، وطاعة ولي الأمر، والشورى غير الملزمة، والصبر على ظلم الاستبداد. وحتى اليوم، لا يزال النقاش يدور حول نفس القضايا القديمة دون جرأة على فتح حوار سياسي حقيقي يتناول حقوق الأفراد ودور الدولة. يجب أن يدور الحديث عن الدولة حول تحويل الحاكم من مالك مطلق إلى موظف لدى الشعب، وتحويل الشعب من تابع إلى مواطن فاعل يشارك في صنع القرار، كما أشار جان جاك روسو في "العقد الاجتماعي": "إن الإنسان يولد حرًا، ومع ذلك فهو في كل مكان مكبل بالأغلال".

الدولة اليوم يجب أن تعكس شخصيتنا الجمعية وثقافتنا المشتركة، فهي ليست قالبًا مستوردًا من الخارج، بل هي كيان ينبع من تاريخنا وجغرافيتنا وتراثنا. هذا ما أكده الكونت فيلو هورسكي، الأرستقراطي البولندي، عندما طلب نصيحة بشأن إصلاح مؤسسات الدولة في بولندا، فجاء الرد مشددًا على أن المؤسسات يجب أن تنبع من الداخل مع الاستفادة من تجارب الخارج. ينطبق هذا المبدأ على دولنا؛ حيث يجب أن تعكس الدولة طموحات الشعب وخصوصيته الثقافية.

ومع ذلك، نجد اليوم أنفسنا منشغلين في صراعات هامشية حول الفن والإلحاد والإصلاح الفردي، بينما تتحكم ميليشيات مجرمة ودول خارجية في شؤون الدولة، دون أي مراعاة لمصلحة الشعب. ننتقد الحكام ثم نسعى للحصول على حماية من مسؤول آخر يوفر لنا الاستقرار، وهو ما يعكس تشابهاً كبيراً بيننا وبين الحكام الذين أضاعوا أوطاننا ورهنوا سيادتها للخارج.

الحقيقة هي أنه لا يوجد محتوى سيعيد الاستقرار للوطن سوى النقد الجاد للواقع والنضال من أجل استعادة حقوق المواطن اليمني. يجب أن نبدأ في بناء وعي مرتبط بالدولة ووظيفتها؛ فالقضايا الشخصية مثل الجنة والنار والإلحاد ستجد مناخها الطبيعي للنقاش في ظل دولة الحريات. يتحدث اليمني اليوم عن الجنة والنار، والصلاح الفردي، والإلحاد، في مناخات تحميها دولة ذات مؤسسات وقانون وإرادة شعبية، في حين أنه في السابق لم تكن لدينا دولة مكتملة الوظيفة ومحددة الأدوار، فعجزنا عن قول كل شيء، ولم نجد تقديرًا لإبداعنا. اليوم نتحدث ونناقش دون وعي بما يحيط بنا من مناخات ونظم تكفل لنا كافة الحقوق، بما في ذلك نقدها والتشنيع بها. فبدلاً من التبشير بالدولة ونقل صور الحياة في ظل دولة المؤسسات، نقلنا صراعنا العقيم، الذي لن ينتج سوى أرباح لشركات التواصل الاجتماعي، وسراب للشعب.

خروجنا من الوطن لا يعني الانفصال عن الدولة؛ فكثير من فلاسفة أوروبا كانوا مهاجرين، لكنهم أسهموا في تقديم أفضل الإبداعات السياسية لإصلاح أنظمة الحكم. كما كتب روسو "العقد الاجتماعي" من منفاه في فرنسا، مخاطباً حكومة جنيف التي كانت جزءًا من طبقته. علينا أن نواجه استبدادنا الداخلي ونبدأ في بناء دولة تعكس إرادة الشعب وتحمي حقوقه، متجاوزين النقاشات العقيمة التي عطلت تطورنا. في حين كانت الدولة محور نقاشات الفلاسفة الغربيين، نجد أن فقهاءنا كانوا جزءًا من منظومة الاستبداد، كما أن مثقفينا غالبًا ما خذلوا شعوبهم بمواقفهم المتخاذلة.

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
الموضوع
النص