2015-09-24 الساعة 03:23م
حرت صراحة ماذا أكتب في مقال يظهر على الصحيفة يوم العيد. من غير المناسب أن أكون ثقيل الظل على القراء في هذا اليوم. وبالمقابل من غير اللائق أن أترك نزيف تعز وصنعاء وعدن واكتفي بأن أمارس الفرح. عندما يدهمني الفرح تلمع عيناي ببريق أستحي أن تراه تلك الأم من تعز، التي ظهرت تحتضن حذاء ولدها الذي سرق الحوثيون روحه، مع ما سرقوا من أمتعة البيوت التي دخلوها على حين غرة من الزمن اليمني والعربي.
«كل عام وأنتم بخير» بعث بها من صنعاء، «كل عام وأنتم بخير» بعث بها من عدن، أما أنا فبعثتها لأحد الموجوعين جداً، فرد عليّ: وأين الخير؟ لست بالطبع مغفلاً حتى أدخل في جدل مع رجل فقد أكثر من عشرة من أفراد أسرته، لأقنعه بأن يتفاءل، وأن الخير موجود.يقع الكاتب أحياناً بين مطرقة وسندان، يريد أن يوصل للناس الحقائق، وأن يجنبهم طعم مرارتها، وهذه هي المهمة المستحيلة. أحيانا أفكر بأن أترك المقالات كثيرة الدسم، القراء لديهم دسم كثير في وجبات صباحية ومسائية تقدمها لهم القنوات الفضائية الإخبارية. أنا في الأصل شاعر، ولدي ثلاث مجموعات شعرية مطبوعة، اعتقلها الحوثيون ووضعوها في مخزن السلاح درعاً عاطفياً، وجاءت الطائرة وقصفت المخزن، الذي انفجر، فامتزجت أشلاء القصيدة من شظايا السلاح، وبقايا عظام الصحافيين «قابل والعيزري»، اللذين كانا معتقلين في مخزن السلاح ذاته.
أشعر أحياناً بأن قصيدتي مفخخة، وأن لساني حزام ناسف يلتف حول خصر القصيدة التي حولها عبدالملك الحوثي إلى «انغماسي»، يبحث عن لحم بشري لينفجر فيه، أنا الشاعر الذي حوله الحوثيون إلى محارب، مع أن الحرب أكثر الأعمال وحشية وبلادة. ومع ذلك، أريد أن أتخلص من الإثقال على الناس، بتصوير واقعهم، وأن أجعلهم يمارسون قليلاً من غوايات الفرح المحرم، في البلاد التي يراد لها أن تتحمل مسؤولية «مقتل الحسين»، مع أنها بريئة من دمه. أذهب إلى الله لأبكي بين يديه، يطيب لي البكاء عنده، الله جميل، وهو لا يشمت بدموع الذين يمرون بالمرارات الكبرى، والخيبات العظيمة في الحياة، قال الله لي وأنا أبكي على مضارب أهلي التي اشتعلت فيها نيران القبيلة، قال: «فإن مع العسر يسرا»، كنت كأني أسمعها لأول مرة، كنت أظن أن اليسر يأتي بعد العسر، إلى أن انتبهت في هذه الآية تحديداً إلى أن العسر يأتي ملازماً لليسر، ولكن أهل الخيبات الكبيرة في الحياة لا يرون اليسر الكامن في كل عسر، لا يدركون أن الفردوس يكمن أحياناً في قلب الجحيم.
أعرف أنه يصعب إقناع ضحايا الحروب بذلك، أن مهمة إقناع الناس أن اليوم عيد تشبه مهمة صاحب ثور يقوده ليحرث به مياه البحر، وأعرف أن صنعاء الملتفة بعباءتها السوداء لن تطرح أحزانها لمجرد أن كاتباً مثلي يحدثها عن العيد الذي غادرها منذ أن جعل الحوثي البكاء على «الحسين» فرض عين على البلاد.
ولكن.. مرة رسم مدرس لمادة الرسم رسمة مموهة إلى حدٍ ما، وطلب إلى تلاميذه أن يحددوا ماهية الشيء المرسوم. فتاة مبتلة القلب قالت: وردة. طالب غبي كان يجلس في مؤخرة الصف، ويثير الشغب، قال: صاروخ، وطالبة أخرى كانت تشعر بالجوع، قالت: كعكة بنكهة الفراولة، لكن المدرس ذهل لجواب طالب ذكي، قال: هذا أنت يا أستاذ.
الرسمة هي الحياة، ونحن نراها من زوايا مختلفة حسب خلفياتنا المعرفية، وأمزجتنا العاطفية، وتجاربنا الذاتية، خلال هذا الطريق الشاق والممتع الممتد من لحظة مخاض الأم إلى لحظة سكرة الموت. أقول لنفسي أحياناً: بما أن طريقنا أصلاً يبدأ بألم المخاض، وينتهي بألم السكرة، فإنه من الحمق أن نملأه كله بالألم.
في لحظة تشكل الغيوم في صفحة السماء، يكتئب الناس في لندن، لأن الغيوم تحجب عنهم الشمس النادرة الظهور في مدينة الضباب، لكن الناس في صحراء الربع الخالي يبتهجون لذلك، لأن الغيوم رسل الأمطار إلى الرمال الملتهبة. وعندما يصحو الانكليزي من نومه يقول مثلاً: «أف يبدو أن المطر سوف ينهمر اليوم بكثافة». أما اليمني فعندما يفرح بقدوم أحد إليه يقــــول: «جئــت وجاء المطر». والذين يطلعون على الشعر الانكليزي يعرفون أن دلالات كلمة «مطر» في قصيدة «تي أس إليوت»، تختلف عن دلالات الكلمة ذاتها في قصيدة السياب، تماماً كما يحلو لشكسبير أن يقول لحبيبته: هل لي أن أقارنك بيوم صيف (في الجمال)، لكن فتاة من عدن قد تصرخ في وجه من يشبهها بيوم الصيف، لأن يوم الصيف في عدن، هو يوم من أيام جهنم.
قضايا الحياة، آلامها، أفراحها، كلها أمور نسبية، وإدراك تلك الحقيقة يجعل الحياة سهلة وممتعة على آلامها، تماماً كما بكى الدلو الهابط إلى عمق البئر لأنه تصور ظلمة قعرها، بينما كان الدلو القابع في قعرها يبتسم لأنه تصور لحظة الخروج منها.
هذه حياتنا على أي حال. وما دمنا لا نستطيع التحكم بمجرياتها، فإن الأولى بنا أن نتكيف معها، ونجترح شيئاَ من الفرح الذي سيرتد علينا عندما نراه يتماوج في عيون الصغار. ثم أن الحياة في حقيقتها ليست ما هي عليه، ولكن ما نراها نحن عليه. تصورنا للحياة هو الذي يجعلها ليمونة حامضة أو عصيراً حلواً، على رأي ديل كارنيجي. الحياة داخلنا نحن، وهي نوعية الشعور الذي نحمله تجاهها، وليست مجمل الوقائع والأحداث الخارجية، وحسب.
اليوم عيد، وأعرف أن الكثيرين يهيئون لاستقباله ببيت المتنبي الشهير: «عيد بأية حال…»، لكن دعونا نجرب هذه المرة أن نصنع نحن العيد، بعد أن حول الساسة، وتجار الحروب أعيادنا إلى «أيام بعاث وعبس وذبيان»، دعونا نصنع لنا عيدا صغيراً من الأشياء الصغيرة، والكلمات القليلة، والزيارات الخفيفة، والبسمات المعدودة المنتزعة من السياق.
قليل من الفرح يكفي، نحن أمة قنوع، يكفينا القليل من كل شيء، حتى من الفرح الذي يمكن أن يكون لبعضنا نصيب منه يوم العيد.
عيدوا، إلم يكن لأجل أنفسكم، فليكن لأجل أطفالكم.
كل عام وأنتم بخير
٭ كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»
د. محمد جميح