2020/08/31
  • السفر إلى يوتوبيا البردوني
  • "إن خريطة للعالم لا تحتوي على يوتوبيا، لا تستحق حتى مجرد النظر إليها. لأنها تغفل البلد الوحيد الذي تتوجه سفينة البشرية دائماً إليه، وعندما ترسو على شاطئه، تتلفت في الأفق، فإذا لمحت بلداً آخر انطلقت مبحرةً إليه. إن التقدم هو تحقيق اليوتوبيات في الواقع" - أوسكاروايلد-

    " لولا يوتوبيات العصور الأخرى لظل الناس يعيشون في الكهوف غرباء بؤساء" - أناتول فرانس -...

     

    لست الآن على محطة الانطلاق إلى آفاق "مدينة الغد"، ولا أبحث عن جواز سفر للرحيل إلى جمهورية "الأيام الخضر". ولليوتوبيا بهذا المعنى السياقي وجودها في نتاج البردوني الذي يحتاج إلى إبحار خاص، لكننا هنا في صدد التأمل في يوتوبيا " النموذج الفرد" أو البطل الكامل كما تجسد في شخصيات البردوني اليوتوبية التي تكررت في معظم دواوينه، بتنوع مدهش، وثراء يتجدد من ديوان إلى آخر يعكس صيرورة النموذج (المثال) في واقع متطور .

     

    و عندما نستحضر نموذج المثال في شعر البردوني فإن الذاكرة تستدعي قصيدة «مصطفى» وكأنها القصيدة اليتيمة التي كرسها الشاعر للتحليق في هذا الأفق السامي.

     

    حاولت ذات ذكرى إعادة ترتيب هذه النماذج المبعثرة في الأعمال الكاملة للبردوني، ودراستها وتحليل أبعادها الفنية والموضوعية، ومحاولة إيجاد الرابط التكاملي بين هذه النماذج لتوضيح المساق التطوري للشخصية اليوتوبية البردونية ولم يسعفني الوقت لإكمال الدراسة.

     

    ولنبدأ مع قصيدة"نموذج رجولي في قصة امرأة" من ديوان "رواغ المصابيح" و لها كما أشرنا الكثير من النظائر في معظم أعمال الشاعر.

     

    في مطلع "نموذج رجولي" يكشف البردوني أنه يتحدث عن نموذج البطل الكامل بوضوح:

    تمت مواصفة البطل

    من كل وجه فاكتمل

    ويصفه بأنه:

    قلق الغموض كأنه

    خبر انقلاب مرتجل

    وكأن تحت جفونه

    ألق المحال المحتمل

    هذا الملبي ليس من

    زمن التخابل والخبل

    ما سر قوته وفي

    أي البراكين اغتسل

     

    وكما اختتم البردوني قصيدة مصطفى بقوله:

    ويا زماناً سيأتي "يمحو الزمان المزيف"

    يبحث الشاعر في خاتمة نموذج رجالي عن اسم للبطل فيهتدي إلى هذا الاسم

    حسنُُ هديت إلى اسمه "محو الوجود المبتذل"

     

    و بين قصيدة "مصطفى" وقصيدة "نموذج رجولي" زمن طويل، ولكن الاشارة لمحو الزمان المزيف والوجود المبتذل تكررت في خاتمة القصيدتين على نحو لافت.

     

    ومن قصائد هذا الديوان المماثلة قصيدة "المنتمي إليه" ومطلعها:

    يحب الناس كل الناس

    حب الأهل والجيرة

    يشم تبسم الزاري

    ومغزى كل تكشيرة

    ويغضب أن يرى الإنسان

    محكوماً بتسعيرة

    والنموذج المثال يأتي أحياناً في صورة أنثى كما نجد ذلك في نفس الديوان "رواغ المصابيح" في قصيدة "زوجة البلد":

    قيل كانت بلا ولد،،، زوجها وابنها البلد

    برتقالية الرؤى،،، زعفرانية الخلد

    قلبها كل شارع،،، كل بيت بلا عدد

    وفي قصيدة "رابع الصبح" في ذات الديوان يصف البرودني نموذجه :

    مقلتاه وحاجباه وفوه

    كالعناوين في كتاب التقلب

    فإذا قال أعجب الكل قولاً

    وإذا لم يقل أثار التعجب

    وينادونه إلى كل مُرٍ

    وإذا أولموا ينادون جندب

    صار بيت البيوت مقهى المقاهي

    ربما يمنعون فيه التحزب

    أو يقولون لست فرداً ولكن

    عالم من خطورةٍ في تهذب

    فليقولوا فما تنكب هولاً

    أو رأى الهول ينثني بالتنكب

    إن نأى المستحيل عن قبضتيه

    فإلى بابه يحث التطلب

     

    هذه النماذج المختارة من مجموعة واحدة فقط تؤكد أن قصيدة "مصطفى" كانت ظاهرة في شعر البردوني تستحق الدراسة لتتبع الرؤية البردونية لصورة النموذج المثال وتمظهراتها وتطوراتها وارتباطها بالوقائع السياسية والاجتماعية.

     

    لعل تطورات الواقعية المادية أورثت زهداً ثقافياً في الحديث عن اليوتوبيا، وكأن اليوتوبيا قد غدت شراً محضاً مع كونها السفينة المشرعة إلى آفاق الخير المحض.

     

    ويبدو أن الصورة غدت أكثر سوداوية مع تهاوي آخر اليوتوبيات المعاصرة الممثلة بـ(جنة الاشتراكية)، وتورط اليوتوبيات الايديولوجية والدينية بالعنف الأعمى، وتسيد الثقافة البراجماتية العملية وتراجع شعبية النغمات الراديكالية ذات النزوع إلى الحلول الجذرية الشاملة في مقابل ارتفاع الأصوات المطالبة بالاصلاحات الترقيعية.

     

    ولعل تهربنا أحياناً من الحديث عن شخصيات البردوني (صورة المثال) المتكررة في قصائده يعود إلى إحساسنا بقدر من الضعة واحتقار الذات أمام هذه النماذج المجسدة لصورة الشخصية الإنسانية والوطنية الكاملة . وربما يعود ذلك إلى ما أسماه الأستاذ محمد الحاضري بنموذج - البطل المأزوم - "المتأثر بالأزمة الاجتماعية والمحاصر بالاشتراطات التعجيزية المنبثقة عن تصور للمثال يبدو غير طبيعي كونه ينطلق من الذهن دون ضبط للمسافة بين المثال والواقع".


    وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أهمية التفريق بين النموذج المتجسد على أرض الواقع والنموذج اليوتوبي (الخيالي) فوظيفة النموذج اليوتوبي تجسيد ما ينبغي أن يكون، أما النموذج الواقعي فمكانه الطبيعي في المنطقة الوسطية ليعمل على تجسير الهوة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون فهو يعيش في منطقة الخط الفاصل القادرة على تشكيل بؤرة التوتر الملائمة لعملية التقمص الوجداني.

     

    والدعوة إلى إحياء يوتوبيات البردوني لا تعني الدعوة إلى تخشيبها وتحنيطها، فأكثر من أساء إلى اليوتوبيا بعض المتحمسين المتعصبين الذين غالوا في تمجيدهم حتى تجاوزتهم حركة الزمن وأصبحت رؤاهم اليوتوبية مقطوعة الصلة بواقعهم واحتياجات مجتمعاتهم المتجددة.

     

    والحاجة إلى المثال ليست حاجة ترفيه فعلماء النفس والاجتماع يتفقون على أهمية التماهي الوجداني في عملية التطور والتغيير ويشير د. محمود كحيل في دراسته ـ المثال بين الإنساني والإلهي في الفكر الحضاري القديم ـ إلى أن النزوع إلى المطلق - متجلي في "المثال" الكامل- ظاهرة إنسانية قديمة لها أبعادها الأسطورية والدينية والفلسفية والاجتماعية.

    تم طباعة هذه المقالة من موقع يمن سكاي www.yemensky.com - رابط المقالة: http://yemensky.com/art2422.html