2022/08/20
  • الإنقلابيون وهم يعطلون السياسة!
  • في اليمن لو لم يحدث انقلابان عسكريان في صنعاء 2014 وفي عدن 2019 وكانت السياسة سارت ضمن آلياتها الديمقراطية وعبَرت مجراها الطبيعي لكان الناخب اليمني قد اتخذ منذ وقت مبكر خياره مع الجماعات السياسية على أساس عقلاني، متحررا عند الإدلاء بصوته من تأثير الانحيازات العاطفية والأخلاقية غير الواعية.

    تلك البديهية السياسية لو تُرِك الأمر لها حتى تمضي لأصبحنا اليوم غير مضطرين لرؤية هذا الكم الهائل من الحملات التحريضية الممنهجة ضد حزب مدني في سبيل تنحيته من إدارة مواقع في السلطة هنا أو هناك أو إقصائه من الحياة السياسية عموما دون مسوغات أخلاقية كافية، لأننا كنا نستيقظ عقب كل سلوك متطرف من هذا النوع على محصلة كارثية يكون الشعب لا الحزب هو الضحية فيها والدولة لا الجماعة هي المطلوبة الأولى والأخيرة من ورائها.

    وإذا ما أمعنا النظر في تاريخ السياسة في الدول العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين وكذلك خلال الربع الأول من القرن الواحد والعشرين نجد أنه قد حمل طابعاً قاتماً ازدهرت فيه الانقلابات العسكرية ومَثَلت العنوان العريض في ناصية هذه المرحلة، الأمر الذي شكل تهديدا وجوديا للحياة المدنية واختراقا خطيرا لمنظومة الديمقراطيات العربية ومبادئها الصارمة.

    وفيما فشلت الانقلابات فشلا ذريعا في إدارة شؤون الدول خاصة فيما يتعلق بالملفات التي تمس مصالح الشعوب وقضاياها، كانت الشعوب في المقابل قد طورت صيغة رفض مبدئية مع تلك الأنظمة الفاسدة والقمعية، وتحركت على فترات متباعدة بشكل عفوي ومنظم على الضد من سياسات أنظمة العسكر الانقلابية التي فرضت أمرا واقعا محاولة اكتساب شرعية ملفقة بالتقادم وبالإكراه وتصفية المعارضين.


    ومن بين العوامل التي أثرت في القرارات الانتخابية للمواطن العربي نلاحظ أن عاملين حاسمين لعبا دورا محوريا في تلك المسألة، تقول الفكرة المنطقية إن الشخص عادة ما يدلي بصوته في الانتخابات بناء على قناعات عقلية، إلا أن الواقع يقول غير ذلك، فبمجرد الانفتاح على الحياة السياسية وعودة العمل الحزبي مرة أخرى في البلدان العربية - التي شهدت موجة انقلابات صاحبها عدم استقرار سياسي أو دخلت البلاد على إثرها في أتون حرب أهلية - نجد أن شريحة واسعة من الشعب لا تقبل أن تمنح أصواتها لجماعات وشخصيات بعينها تورطت في الانقلاب أو حتى التي تواطأت معه، وقتئذ يصبح الشعب مدفوعا بمشاعر سلبية تجاه تلك القوى فيذهب للتصويت لمنافسيهم مهما تكن برامجهم غير مقنعة، أي أن الناخبين يتخذون قرارتهم الانتخابية حينها ليس على أساس معطيات عقلانية بحتة كما يجب أن تجري الامور عادة، ولكن في هذه الحالة على الأقل يتعامل الناخب مع المسألة الانتخابية كفرصة للانتقام من الأطراف التي عبثت في الماضي باستقرار البلاد وعرضته للخطر عبر سلوكها الانقلابي، كما أن الأمر الثاني الذي كان قد أثر وربما يمكن أن يظل مؤثرا على خيارات الناخب أثناء سلوكه الانتخابي هو حالة الشعور بالتضامن التي تحكم طبيعة علاقته مع أي تيار سياسي مدني قد يحدث ضده الانقلاب، خاصة إن رافقت ذلك الانقلاب حملات اعتقال وتشريد وإقصاء لقيادات وأتباع ذلك التيار، هذا الأمر تحديدا يجعل الناخب - بدافع من تأنيب الضمير لعدم دعم ذلك التيار حين الانقلاب عليه، إضافة إلى شعور الناخب بالرغبة الشديدة للانتصار له - لا يجد طريقة أفضل من الإدلاء بصوته لصالحه، ويأتي ذلك التصويت تعبيرا صادقا عن التعاطف الذي يظل يشعر به تجاه الطرف المظلوم من وجهة نظره.

    إن المتابع لتاريخ الديمقراطيات العربية يلاحظ أن أحد العوامل المؤثرة في الانتصارات الانتخابية التي حققتها الأحزاب الإسلامية تأتي من كونها أطرافا ضعيفة ضمن معادلة القوة السياسية والعسكرية في البلدان العربية، فتلك التيارات خلال تاريخها السياسي كانت ولا تزال تتعرض لسياسيات إقصاء واضطهاد سواء وهي في المعارضة أو عندما تتمكن من الوصول عبر النظام الانتخابي للهيئات والمؤسسات الحاكمة، ورغم تواضع الخبرة السياسية للتيارات الإسلامية إلا أنهم فور خروجهم من السجون والمعتقلات ينجحون كثيرا في كسب الانتخابات وتحقيق انتصارات كاسحة على خصومهم السياسيين، وقد حدث هذا بالفعل حتى قبل أن يكون قد أتيح لهم الوقت للتحول إلى حزب سياسي.

    إذن يذهب المواطن البسيط عادة للاعتقاد بأنه لن يكون هناك من طرف أحق بالحكم أكثر من أناس تعرضوا للظلم مثله، أناس يشبههم معهم ويشبهونه، على اعتبار ضمني أن هؤلاء ضعفاء مقابل أقوياء، وهم تبعا لذلك يمثلون الخير مقابل الشر الذي يقع ضمن دائرته الفاسدون والانقلابيون، وفقا لهذا المزيج من الانحيازات الأخلاقية والانفعالات العاطفية يمنح غالبية الناخبين أصواتهم لمن يعتقدون أنه يستحقها.

    صحيح أنه لا يمكن التنبؤ تماما بالنتائج التي ستفرزها أية انتخابات قادمة في أي من الدول العربية التي تتعرض فيها جماعة الإخوان المسلمين والأحزاب التي تعتبر امتداداً لذات التيار، على سبيل المثال، للاضطهاد والإقصاء والتنكيل، الذي يمكن أن أجزم به أن هذه العوامل مجتمعة مع عوامل أخرى أصبحت مؤثرة حتما في قرارات الناخب العربي طوال تاريخ الديمقراطية العربية، إذ الظروف والأطراف وأدوات الصراع لا تزال متشابهة جدا حتى اليوم.

    يمكن التأكيد على ما ذُكر آنفا بالنظر للتجارب الديمقراطية التي سُمح فيها للأحزاب المدنية يمينية كانت أو يسارية بتولي مقاليد الحكم عبر انتخابات حرة ونزيهة مع تمكينها من أدوات السلطة وإتاحة الفرصة لها لممارسة سلطاتها حتى انتهاء فترة حكمها، وعلى سبيل المثال شاهدنا كيف تراجع حضور حركة النهضة التونسية شعبيا، فخسرت الأغلبية في البرلمان خلال النسخة الثانية من الانتخابات البرلمانية 2014، أيضا تلقى حزب العدالة والتنمية هزيمة تاريخية قاسية في المغرب على خلفية مواقفه من التطبيع مع إسرائيل وفشله في إدارة شؤون البلاد، بالإضافة إلى تراجع شعبية حزب العدالة والتنمية في تركيا بعد تعثره في مواجهة الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالاقتصاد.

    في النهاية يمكن الجزم بأن مشكلة الانقلابيين دائما وفي كل مكان تكمن في عدم قدرتهم على التريث، ضعفهم أمام شهوة الانتقام، عجزهم عن الرهان على فشل خصومهم السياسيين، هذا يدفعهم عادة إلى تعطيل مسار النهج الديمقراطي وتجميد العمل السياسي، في مجازفة واضحة بأمن البلدان، وفي إضرار بالغ بمصالح الدول وأمنها القومي واستقرار شعوبها، كل هذا يحدث في سبيل إشباع نشوة نصر موهومة وبغية التلذذ بقهر الخصوم السياسيين وبهدف الاستئثار بالسلطة والثروات، حتى ولو كان ذلك السلوك الأخرق سيودي بالبلاد إلى أتون حروب أهلية وسيرهن قرار وسيادة الدولة لقوى خارجية تتآمر على الوطن وشعبه.

    * خاص بـ"المصدر أونلاين"

    تم طباعة هذه المقالة من موقع يمن سكاي www.yemensky.com - رابط المقالة: http://yemensky.com/art2568.html