2015/05/16
  • الحملات الصليبية على تعِز
  • "السيدات والسادة..

    في جبل في صعدة صلبوا جثمان حسين بدر الدين الحوثي، وصار شبيهاً بالإله والأضحية معاً. نصبوا له ضريحاً يخلب الألباب، وأمام الضريح يتلاشى الفارق بين الرب وحسين، وصار التوحيد والأضحية شيئاً واحداً. إذا عدنا إلى ما كتبه "فرويد" عن موسى والتوحيد سنعثر على الاستنتاج التالي: تنشأ الأديان الجديدة/ العقائد الجديدة مع الأضحية المقدّسة. الأضحية المقدّسة لا تؤسس لمذهب داخل الدين بل لدين جديد. في عمله الضخم "الدين والعلمانية في التاريخ" اتجه عزمي بشارة إلى إمكانية إعلان الشيعة ديناً مستقلاً قائماً على أضحية مقدّسة خاصة أنشأت توحيداً خاصّاً. حسين الحوثي، في النموذج اليمني من "موسى والتوحيد"، أسّس لدين جديد اسمه الحوثيّة. كان الكاتب نبيل سبيع قد رصد حالات عديدة في الدعاية الحوثية الرسمية تعزز هذه الملاحظة من قبيل "الاعتداء على السيد حسين هو اعتداء على القرآن". أما عمليّاً فقد ارتقى حسين الحوثي من منزلته المكافئة للقرآن، كما قالت لوحة كبيرة في صنعاء القديمة، إلى منزلة الإله القدير.

    جنود الإله الجديد "حسين بدر الدين الحوثي" انطلقوا يبحثون عمّن صلَب إلههم. وكانت تعِز هي الواجهة. تعِز وعدن والضالع ومأرب. البوّابة الشرقية لتعِز مفتوحة على إمدادات الحوثيين من جولة القصر ـ الحوبان حتى معسكر 48 في صنعاء. أما البوّابة الغربية للمدينة فمفتوحة من جولة المرور ـ الحصب حتى المخا، ومن هناك إلى الحديدة والبحر وإيران!

    أمام البوّابتين نُصب برجا بابل. وفي سفر التكوين، الإصحاح الحادي عشر، قال بنو آدم "هلم نبنِ لأنفسنا مدينة وبرجاً رأسه في السماء". ولم يعجب ذلك الأمر الإله فنزل إليهم وبلبل ألسنتهم وصاروا يتحدثون لغات عديدة.

    وأمّام بوّابة تعِز من جهة الشرق حشد الحوثيون مقاتلين بعشرات اللهجات: من صعدة، إب، عمران، المحويت، ذمار، العاصمة، حجة، صنعاء، يريم، وصاب، والجوف .. إلخ.

    المعلومات تقول إن الحوثيين يفرضون على مشائخ الشمال المؤيدين لهم أدلّة مادية على نواياهم الطيّبة. وأولئك يزودونهم بالمقاتلين. تحوّلت المعركة في تعِز إلى ما يشبه الحملات الصليبية. ولا يمر يوم واحد حتى يزود الحوثيون على مداخل تعز بحملات صليبية/ حسينحوثية جديدة. وقد نقل ناشط من صنعاء عن خطيب مسجد قوله للمصلين "إن الجهاد في تعِز مقدم على الجهاد في فلسطين". ونقل آخرون عن مسجد وضع صورة توكل كرمان أمام عتبته ليدوس عليها المصلّون، وكانوا يفعلون ذلك بانسجام لافت.

    الصورة في عدن لا تقل وحشية عن تعِز. صارت عدن خراباً يخدش الأرواح. وصف السياسي اليمني عبد الله سلام الحكيمي، وكان سكرتيراً للحمدي وينحدر في الأساس من تعز، ما جرى في عدن بأنه بشرى سارّه. وأن ذلك كله إنما يحدث لكي ينعم أهل عدن "لأول مرّة في تاريخهم منذ الاستقلال" بالحكم الذاتي! كان عبد الله سلام الحكيمي أحد مرشحي الحوثي لرئاسة حكومة الكفاءات. وكان أيوب الحمّادي المرشح الثاني للجماعة الدينية. ينحدر الرجلان من تعِز وكان ذلك مجرّد تمويه بدائي من قبل الجماعة الدينية المتوحّشة تحاول من خلاله إخفاء نواياها الحقيقية تجاه المحافظة الكبيرة. حصلت على معلومات من مصادر عليمة تقول إن عبد الملك الحوثي وصف الحكيمي بادئ الأمر بال"مهفوف" لكنه ارتاح للفكرة إجمالاً فهي تؤدي غرضها في التمويه المطلوب. بينما ذهب الحكيمي يتماهى مع الدين الحوثي حد وقوفه على حرائق عدن زافّاً البُشرى للسكان الذي نجوا من الموت للتو.

    تابعنا، نحن القادمين من تعِز، مواقف عبد الله سلام الحكيمي وبدا لنا رجلاً كبيراً فقد عقله. وبدا للحوثي مجرّد رجل مهفوف كما كان دائماً. ربطتني بعبد الله سلام الحكيمي علاقة جيدة لفترة طويلة، ولا بد أن تصله هذه الرسالة. وعلى كل حال فأنا ذلك النوع من البشر الذي يملك الاستعداد الكامل للتضحية بكل العلاقات الإنسانية مقابل قول ما يعتقد إنه حق أو حقيقة.

    تعِز ينطبق عليها وصف the city state أو المدينة الدولة. اكتشفت التنوير والمعرفة مبكّراً. ودعوني أذكركم بما حدث لمدرسة الأشرفية، واحدة من أعرق مدارس العلم العربية، إبّان حكم الإمام أحمد يحيى حميد الدين "وهو جدّ سلالي للحوثي، وابن عم". ذهب مثقفو تعز إلى الإمام وأنبأوه أن المدرسة صارت هشّة وتوشك على الانهيار، وطلبوا من دولته ترميمها. هزّ الإمام، حفيد رسول الله، رأسه وأمر ببناء مدبغة جلود إلى جوارها. وكانت النتيجة أن طلبة المدرسة فرّوا من روائح الميّتة. وهذه القصّة يوردها القاضي الأكوع.

    وفي النصف قرن الأخير خرج الآلاف من تعِز واتجهوا إلى كل اليمن كـ : فنيين، صنائعيين، مهنيين، أطباء، حقوقيين، عازفين، مهندسين، أساتذة جامعات، طلبة جامعات، صيادلة، محامين .. إلخ.

    والآن، في العام 2015، تصحو تعِز على فاجعة:

    جاءها من كل تلك المحافظات البعيدة حشود من القتلة والفتّالين والمجرمين. وكانت تلك المكافأة التي حصلت عليها تعِز بعد نصف قرن من "حمل الصخرة على الأكتاف". وتبلبلت الألسن أمام بوابات تعِز، وسقط قتلى كثيرون. ورأينا فتاة في الـ 22 من عمرها تصاب بقذيفة دبابة وتصير أشلاء.

    لاحظ محمد السامعي، وهو كاتب من برلين، أن تعِز تحتفل بشهدائها بطريقة رسالية ضخمة كأنها تقدم قرابين للإله. وأن أولئك الشهداء غالباً ما يكونون من حملة الشهادات العُليا. وفي المقابل يكوّم الحوثيون قتلاهم في ناقلات ويدفنونهم في وديان بعيدة ولا يتذكرهم أحد.

    وعندما نشر أحد الهاشميين التعزيّيين، الجُنيد، صورة قريب له قتلته المقاومة الوطنية في تعز تلقى حسابه على الفيس بوك أكثر من 700 تعليق في الساعات الأولى، وكانت الرسائل تقول "سحقاً" للمقتول.

    في مقابل البلبلة التي تحتشد أمام بوابات تعِز، الألسن العديدة التي فشل الإنسان التعزي في تأهيلها على مدى نصف قرن من الزمن، تتواجد تعز على الجهة الأخرى: شجاعة، قوية، مغرورة، ومتجانسة. تجانس يسحر الألباب، وعلى مستوى وطني فوق حزبي. وكالعادة أثبّت التعزّي الاعتيادي والنخبوي أن "تعز أولاً، وتعِز أخيراً" عندما يتعلق الأمر بكرامة تلك البلدة وضميرها وشخصيتها.

    في برلين، قبل أسبوعين، كنتُ في مطعم إيراني. يخدم في المطعم عمّال لبنانيوّن. تعرّفت عليّ سيدتان يمنيتان وجرى بيننا حوار أخذ أكثر من نصف ساعة. وذكّرتهما بما كان يجري في أوروبا في عصور الجذام فهتفت إحداهما "يا إلهي". ذلك عندما مرّ شاب طيّب من الهاشميين وتعرّف إليّ هو الآخر وصافحني بخجل وطيبة وخرج. وقلتُ لهما عند ذلك: وزّعت أوروبا أجراساً صغيرة على المصابين بالجذام وكان على المجذوم أن يضرب الجرس قبل أن يدخل شارعاً أو دكّاناً ليأخذ الناس حذرهم ويفرّوا. وقلتُ لهما إن الناس تهرب من جوار بيوت "الأشراف" في حريب، شبوة، والسدّة، إب، وفي صنعاء. استمرار العدوان الحوثي على كل الجهات سيخلق وضعاً مشابهاً ولن يذهب الناس لتجريم الحوثية وحسب في قابل الأزمان، بل الهاشمية نفسها! وسيحملون الأجراس.

    الصورة الحديثة للحرب:

    دمّر التحالف العربي الأسلحة الثقيلة التي كان بمقدور تحالف الحوثي وصالح استخدامها لتهديد السعودية. وبقيت لديهم الأسلحة التي تمكّنهم من تهديد حياة اليمنيين ومدنهم. لمحمد العمراني، الكاتب المعروف، وصف دقيق للهدنة الراهنة:

    توقّف العدوان على العدوان، وبقي العدوان.

    يهرب الحوثيون الناعمون من الحقيقة إلى إدانة "العدوان السعودي" على اليمن. وهذه ليست الحقيقة. حتى فيما لو سلّمنا، وهذا كلام فارغ، بأن ما يجري هو عدوان على اليمن فعلينا أن نتذكّر هذين الأمرين:

    ـ ما كتبه ناشط ومثقف من تعز "عندما تحلق الطائرات فوق صنعاء يشعر أهلها بالخوف. وعندما تحلق الطائرات فوق تعز نشعر بالأمان".

    ـ تشارك مصر والأردن والمغرب والسودان بـ 15 طائرة لكل دولة، بعد اكتمال قواتها المشاركة. وتتفوق مصر بأربع سفن حربية تشترك في العملية، وفقاً للدويتشه فيلله. وهذا يعني عملياً أن15 طائرة مصرية، 15 طائرة أردنية، 15 طائرة مغربية، 15 طائرة سودانية، 30 طائرة إماراتية، 10 طائرات كويتية .. إلخ تطير في الأجواء اليمنية مرّة واحدة في اليوم على الأقل وتضرب أهدافاً "لنتذكر: حوالي 120 طلعة جوية يومية، والطلعة الجوية تتشكل من 12 طائرة على الأقل".

    بمعنى رياضي:

    تقصف جمهورية مصر العربية اليمن بحوالي 15 طائرة في اليوم. وحتى الآن حوالي 670 طائرة عسكرية مصرية قصفت أهدافاً في اليمن منذ بدء العاصفة. ومثلها: المغرب، الأردن، والسودان. وحوالي 1300 طائرة إماراتية قصفت أهدافاً داخل اليمن منذ بدء الحرب.

    وعادة، حتى في مفهوم القانون الدولي، تكفي قذيفة واحدة للقول إن ثمّة عدواناً.

    ولكن: لماذا يصرّون على لازمة "العدوان السعودي"؟

    باختصار:

    لأنهم يهربون من مواجهة الحقيقة. فنحن بإزاء جماعة دينية مسلّحة قوّضت السلم الداخلي وأقلقت العالم. وهو ما استدعى تحالفاً دوليّاً شبيهاً بالتحالف الدولي في مواجهة داعش في العراق.

    وليس علينا أن ننسى: أعلنت ألمانيا عبر مستشارتها ميركل، وفرنسا عبر رئيسها هولاند، وأميركا عبر رئيسها أوباما، أنها تقف مع التحالف العربي وتزوّده/ ـأو على استعداد لتزويده بكل ما يحتاجه من دعم لوجيستي ومعلوماتي.

    وكمواطن من تعِز أود أن أعترف لكم بهذه الحقيقة:

    أنا أيضاً أشعر بالأمن عندما أرى طيران التحالف العربي يحلق في سماء تعِز. وليس أنا وحسب، بل أهلي وجيراني أيضاً.

    أتمنى لمؤتمركم النجاح، ولبلدنا الخلاص، وللأمّة اليمنية بحياة طيّبة مثل باقي مجتمعات العالم."

    تم طباعة هذه المقالة من موقع يمن سكاي www.yemensky.com - رابط المقالة: http://yemensky.com/art400.html