أهم الأخبار

بلفقيه.. الصوت الذي أتعب المسافات

2017-12-11 الساعة 04:35م (يمن سكاي - المصدر اونلاين)

بعد عقود ستة من الطرب والإدهاش يصمت النغم الجميل أبو بكر سالم بلفقيه.

 

وبوفاته تطوي الأغنية اليمنية فصلا من أهم وأثرى وأروع فصولها على الإطلاق قد لا يجود الزمان بمثله خلال قرون قادمة.

 

 

 

ومنذ نقطة البدء وحتى نقطة النهاية عاش بلفقيه مارثونا طربيا، ورحلة مضنية في فضاء الفن الأصيل، وتجربة غنائية مثيرة، دخلها فتى يافعاً مسكونا بالتجديد والتجويد، وخرج منها واحدا من أهم أساطين الغناء العربي على الإطلاق.

 

 

 

تلتقي في تجربة بلفقيه كثير من الألوان والظِلال الفنية تتنوع بين الصوفي والوطني والعاطفي، وبين التراثي والمعاصر، وبين الحضرمي والعدني والصنعاني والخليجي، وبين الفصيح والعامي، ويقابل هذا التنوع الثري تعدّد عذب في طبقات صوته -الذي اعتبرته اليونسكو ثاني أحسن صوت في العالم- بين القرار والجواب بمقدرة فنية عالية، يعزّزها وعي فني باذخ، وقراءة حاذقة تستنطق كل ما من شأنه أن يشكّل رافداً للأغنية في تجلياتها المختلفة.

 

 

 

وبلفقيه شاعر مسكون بجمال الكلمة وعذوبتها، عاش تجلياتها منذ يفاعة سنه، فقد كان منزله في مدينة تريم ملتقى للعلماء والأدباء، وكان خاله حداد بن حسن الكاف شاعرا مقتدرا ومطربا معروفا، وكان بعد ذلك للطقوس الصوفية التي تقام في مدينة تريم في مناسبة مختلفة دورها في تشكيل وجدانه الفني عاشقا حد الثمالة للكلمة الجميلة، ومسكونا بالنغم الآسر. وحين بدأ يدندن بما تلقّفته حافظته من أناشيد القوم احتضنه عمه المنشد محمد زين بلفقيه، واصطحبه معه في كثير من المناسبات الصوفية كرديف له، ومعاون يساعده في أداء بعض الأناشيد، فبدأ يُعرف بين الناس، وتنامت موهبته حتى سلّم له عمه الراية ولا يزال فتى يافعا مسكونا بالدهشة، متأملا في آفاق الفن، مستبشرا بالقادم الأجمل.

 

 

 

وصل بلفقيه مدينة عدن في بواكير شبابه، وكان له أن يعيش وسطا فنيا مغايرا، يقف خلفه جهابذة من الشعراء المعاصرين أمثال محمد عبده غانم ولطفي جعفر أمان، وفنانون مقتدرون كأحمد قاسم والمرشدي ومحمد سعد عبدالله، ولم يكن أمام بلفقيه خيار آخر غير الولوج في هذا الوسط بحذر شديد، فبدأ مشواره الحقيقي عام 1956م حين قدّمه الفنان محمد مرشد ناجي في أحد الأعراس، وكانت بدايته مع أغنية (ياورد ما أحلا جمالك) التي كتبها ولحنها وغناها، وأتاحت له شهرة واسعة في الوسطين الفني والجماهيري، أهله للوصول إلى إذاعة عدن التي كانت يومذاك معيارا للفنانين الموهوبين، فبدأ بتسجيل بعض أغانيه باسم (وهيب)، خوفا من معارضة أسرته في تريم لمنهجه الجديد، وحين علم بموافقة جدّه على هذا المنهج كان (أبو بكر سالم بلفقيه) اسماً يطرق أبواب مدينة الفن بثقة عالية، ليصبح بعدها ملأ الآفاق، مما أهله لمحطات فنية تالية تنقّلت به ما بين الكويت وبيروت وجدة والقاهرة.

 

 

 

حمل بلفقيه اليمن بين جوانحه في كل رحلاته الفنية، وعلى الرغم من تفرّد صوته، وقدرته العالية في أداء مختلف الألوان الغنائية، فقد كانت كل أغانيه تقريبا مألوفة حميمة للذائقة الفنية لليمنيين، الذين وجدوا في أغانيه الجميلة بساطتهم وتلقائيتهم، كما وجدوا في تفاصيل صوته الدافئ العذب فضاءات من الدهشة تخرجهم من ضيق السائد المألوف إلى رحابة الطرب الباذخ، كما وجدوا في تنويعاته المختلفة من خفض ورفع وهمس وتفاعل مع دلالة الكلمة جبال اليمن وسهولها ووديانها وسواحلها، وكأنَّ كل أغنية من أغانيه بساط سحري يلتقي فيها اليمنيون من مختلف جغرافياتهم وأذواقهم.

 

 

 

نهل بلفقيه كثيرا من التراث، ووجد في الموروث الفني لليمن مخزونا هائلا أحسن توظيفه في كثير من أعماله الفنية، والتفت إلى الألحان الشعبية كالمواويل الزراعية فأدخلها في رحاب الأغنية المعاصرة، وطوّرها وقدمها لجمهوره عذبة طرية، وعلى الرغم من وفرة منجزه شعرا وألحانا وغناءً فإنه لم يكرر نفسه، ولم يقبل بما هو في متناول اليد، ولكنه سبر أغوار تجربته وسخّر كل إمكانياته بحثا عن المتميّز والمتجدّد، وعما يبقى في ذاكرة الناس، ومن هنا فلا غرابة أن تظل أغانيه التي قدمها في خمسينيات القرن الماضي حية متجدّدة وحاضرة حتى اليوم في الوسطين الفني والجماهيري.

 

 

 

مثلت الثنائية الفنية التي جمعت بين بلفقيه والمحضار رافدا فنيا من روافد تجربتيهما الفنية معا، وعلى الرغم من رسوخ قدم المحضار الشعرية إلا أن بلفقيه لم يقف كطرف في هذه الثنائية موقف المتلقي الساذج، بل أنه سبر أغوار النص المحضاري وأدخل فيه تعديلات محكمة سواء في النص الشعري أو في النوتة الموسيقية، مراعاة لذوق جمهوره الواسع ونأيا عن بعض الألفاظ الغريبة، ومع كل ذلك فقد كان معترفا بفضل النص المحضاري، وتفوقه على من سواه من الشعراء.

 

 

 

ومن المهم الإشارة في تجربة بلفقيه إلى أن هاجس الشعر لديه سبق هاجس الغناء، فقد بدأ بكتابة نصوصه الغنائية في بواكير حياته الفنية وهو لا يزال عازف أيقاع، وقد أشار إلى ذلك في ديوانه اليتيم (شاعر قبل الطرب) الذي صدر قبل عدة سنوات.

 

 

 

ليس صحيحا أن بلفقيه في تجربته مع الأغنية الوطنية بدأ مع أنشودته الخالدة (أمي اليمن)، وإن كانت هذه الأنشودة هي أروع أناشيده الوطنية على الإطلاق. فبالعودة إلى بدايات بلفقيه وإبان تواجده في مدينة عدن سجّل بلفيه عددا من الأناشيد الوطنية الثورية منها (تسلمي ياعدن)، و(اليوم يومك ياعدن)، من كلماته وألحانه و(اسكني ياجراح) من كلمات أبو القاسم الشابي وألحانه.

 

 

 

وقد تميّزت أناشيده الوطنية لليمن بأنها ارتبطت باليمن أرضا وإنسانا لا بأشخاص، وهذا ما يجعلها حية متجددة، وعصية على النسيان. وهذه الأغاني ليست كل شيء في وطنية هذا العملاق، الذي مثّل الأغنية اليمنية في مساربها المختلفة أصدق تمثيل على مدة عقود ستة، ولم يتخلَّ عنها رغم هجرته من اليمن، ورغم استقراره في مناخات فنية أخرى مختلفة، كان فيها منافحا عن الأغنية اليمنية، ناقدا لمحاولات التجريف التي تنال منها بين الحين والآخر.

 

 

 

يأسرك بلفقيه وأنت تستمع إليه في حواراته كواحد من كبار المثقفين المحيطين بدقائق الأمور الفنية والأدبية.. إنه بالمختصر المفيد يقول أن الغناء ليس دندنة عابرة، ولا موهبة جمال الصوت وحسب؛ ولكنه وجه آخر للهوية بكل ما تعنيه الكلمة من أبعاد ومعان، ينبغي للعاملين فيه أن يكونوا على قدر كبير من الوعي الفني الناقد، ومن الدراية الكاملة بما يحقق له الإضافة المتميّزة، ذلك أن الإبداع هو أن تضيف؛ لا أن تكرر من سبقوك ببلاهة وسذاجة.

 

 

 

سيظل بلفقيه صوتاً حاضرا في ذاكرة اليمنيين ما دام للفن ذواقوه المتميزون، وما دامت اليمن قبلة إبداع وفكر وفن.

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
الموضوع
النص