2021-04-05 الساعة 07:19م (يمن سكاي - الصحوة نت)
من بين شعراء العربية المعاصرين يكاد الشاعر الثائر الشهيد محمد محمود الزبيري يكون نسيج وحده في الشعر الوطني، حيث أوقف شعره في حب اليمن منقطعا لهذا الحب، متبتلا في محرابه، راغبا عما سواه من إغراءات البوح وغوايات القصيدة، وحتى في تلك القصائد التي وقف بها على خرائب الذات باكيا أحلامه وراثيا ذاته؛ كان الوطن حاضرا فيها، يتقاسم معه مرارات الخيبة ولواعج الفقد، وهو أمر ندر أن نجده لدى شاعر آخر من شعراء الوطنيات سواء في اليمن أو في الوطن العربي.
واللافت في شعر الزبيري أنه رغم واحدية الوجهة، لم يأت مكررا، ولم يستنسخ بعضه بعضا، وإنما يمثل كل نص من نصوصه عالما مستقلا بذاته جمالا وجلالا ومبنى ومعنى، وفوق ذلك يمكن القول إن كل نص من النصوص الزبيرية جاء ممتلئا بالإبداع، مشبعا بالعظمة، خالصا من كل شوائب الحشو اللفظي والمعنوي، وله مضامينه الخاصة بها سواء الفنية منها أو الوطنية.
وإذا كان هذا الملمح هو العنوان الإبرز في شعر الزبيري رحمه الله فإن هناك من خصائص العظمة وسمات التفرد الشيء الكثير غير أننا في هذه العجالة نكتفي بثلاث منها بوصفها طاغية على شعره، بارزة في نصوصه، وتكاد أن تكون رغم تنوع أساليب العرض مشتركا عاما بين قصائد الزبيري.
اتساع الرؤية
وأول هذه الخصائص اتساع الرؤية وشمولها للواقع رأسيا وأفقيا، فهو من ناحية قد وقف بين نقد الظلم والتشنيع عليه وبين معاناة الشعب موقفا واعيا ومتزنا، فلم يشغله أحدهما عن الآخر، فبينما كان يهوي بسياطه على الظلمة، كان في ذات الوقت يتحسس آلام الناس جوعا ومرضا وخوفا، ويرى بباصرته الشعرية ظلال كل ذلك في نظرات الناس ونبرات أصواتهم:
ما لليمانين في نظراتهم
بؤس وفي نبراتهم آلامُ
ظلمٌ وآلامٌ وفقر مدقعٌ
ومجاعة ومخافة وإمامُ
وهو من ناحية أخرى يحيط بكل تفاصيل الواقع المريض ودقائقه: بالجموع الجوعى والحبوب مخزونة في صوامع الغلال، بأنين المحرومين التي لا تصل أسماع الظلمة المتخمين، بمطابخ تزييف الوعي التي تترصد دعاة النور في كل طريق، وحتى في تصرف ذلك العكفي البليد الذي يفطن لأنواع الأذى وكأن إبليس هو الذي تولى تربيته، ثم أهداه مكنة أذى تحمل في بلاط الطغيان.
الفن أولا
وهذه سمة أخرى في شعر الزبيري، فكل نص من نصوصه يمثل قطعة فنية خالصة، صحيح أنه مثقل بالمضامين الوطنية، لكن إبراز هذه المضامين لم يأت على حساب المعمار الفني، مما جعل هذه النصوص مزدحمة بالصور، غنية بالأساليب، مزدانة بالإدهاش، خالية من المباشرة والتقريرية، بل إن اللافت في هذا الأمر أن شعر الزبيري الجماهيري قد أوصل رسالته دون إغراق في الشعارات، وبعيدا عن الخطابية المقيتة التي أصابت الشعر العربي الثوري بمقتل.
الحياة كلمة
ولعل من الخصائص البارزة في تجربة الزبيري الشعرية خصوصا والفكرية بوجه عام أنه عاش كلماته، وتماهى معها تماهيا كاملا، فما يعتقده ويؤمن به ويمارسه على المستويين الذاتي والجمعي هو ما يقوله شعرا ونثرا، فليس ثمة انفصام بين القول والفعل في النص الزبيري، وليس ثمة حواجز بينه وبين شعره.. هو شعره وشعره هو، وكأن لسان حاله يقول: ليس في الجبة غير الشعر، بمعنى أن تجاربه الشعرية كانت حياتية حقيقية، ولم يستعرها من وادي عبقر، فعندما كتب عن السجن كان يعيش ظلماته، وعندما كتب عن مرارات المنفى ووحشة الاغتراب كان شريدا طريدا، وعندما كتب قصائده المزلزلة لعروش الظالمين لم يكن نزيل المكاتب المكيفة، وعندما كتب صادقا:
بحثت عن هبة أحبوك يا وطني
فلم أجد لك إلا قلبي الدامي
كان لا بد أن يمضي صادقا مع شعره إلى آخر المشوار، وكان لا بد أن يستشهد رحمه الله.. فالرائد لا يكذب أهله، والشاعر الحق لا يخون كلماته.