2023-12-27 الساعة 09:41م (يمن سكاي - المصدر أونلاين)
في ٢٦ أغسطس الماضي، قال قائد القوات البحرية في الحرس الثوري الإيراني، العميد علي رضا تنكسيري "يجب أن نسيطر على البحر إذا أردنا أن نؤثر في هندسة النظام العالمي الجديد".
ومن هنا، يمكن القول إن يوم 19 نوفمبر الماضي، هو أحد الأيام "المشرقة" لدى قادة إيران المرتبطين بعمليات الحرس الثوري وصراع طهران على حرب النفوذ في المنطقة، إذ عدّ الإيرانيون نجاح الحوثيين في السيطرة على سفينة "جالاكسي ليدر" المرتبطة بإسرائيل في البحر الأحمر واقتيادها إلى ميناء الحديدة وقدرتهم على فرض منطقة عمليات في البحر، بغطاء إسناد غزة، بمثابة نقطة تحوّل استراتيجية من حيث قيمة وحساسية القدرات والأوراق العسكرية النوعية التي باتت تتمتع بها إيران عبر أذرعها في المنطقة، وهذه المرة، في البحر الأحمر بكل ما يمثله من ورقة قوة حساسة تؤثر دولياً، كونها ساحة جديدة بعيدة عن طهران وقريبة من خصومها الإقليميين، وتأتي كثمرة غير مباشرة لاستثمار إيران في "القضية الفلسطينية" لصالح أهدافها التوسعية في المنطقة العربية.
اختارت إيران التصعيد من خلال الحوثيين لإنقاذ سمعتها وإسقاط الواجب في إسناد غزة بعد أن نفذت إسرائيل بدعم أمريكي ردًّا وحشيا ومستمرا بعد عملية طوفان الأقصى التي قامت بها حماس في ٧ أكتوبر. وبعد أسابيع من تمحيص الخيارات والكُلفة المتوقعة في حال تحريك جبهة حزب الله أو سوريا، وجد الإيرانيون أن الحوثي يتمتع بمميزات وموقع جغرافي وخبرة عسكرية تمكنه من إحراز مكاسب تفوق الكلفة المتوقعة، وتقود في النهاية إلى مستوى جديد من المواجهة التي تمضي فيها إيران، حتى بعد توقف حرب غزة، في التوسع وتضييق الخيارات على خصومها الإقليميين، حتى بعد عقدها اتفاقاً مع السعودية في مارس الماضي وتهدئة حدة التوترات.
نجاح الحوثي حتى الآن، في شن هجمات ضد نحو ١٢ سفينة متجهة إلى إسرائيل وامتناع كبرى شركات الشحن حول العالم تسيير ناقلاتها عبر الأحمر تجنباً للمخاطر الناجمة عن تلك التهديدات، وما تبع ذلك من بداية متعثرة للتحالف البحري الذي شكلته الولايات المتحدة في 18 من الشهر الحالي، لردع تهديدات الحوثيين بدعم وتسليح إيراني كما تقول الإدارة الأمريكية، ينعكس على وضع الحوثي كذراع طولى إقليمياً حتى على مستوى بقية الأذرع الإيرانية الأخرى - ما يجعله (الحوثي) مؤهلاً ليكون عضواً أكثر فاعلية في "محور المقاومة" وذراع إيران الطويل للهيمنة في المنطقة بما يجلبه ذلك من تداعيات بعيدة المدى على الوضع في اليمن.
وتزامن تصعيد عمليات الحوثيين في البحر الأحمر مع إصرار السعودية على عزل تداعيات ما يحدث في غزة عن مسار التفاوض الذي وصل مراحله الأخيرة لإنهاء الحرب في اليمن عبر وساطة عمانية، وكثف المبعوث الأممي "هانس جروندبرج" لقاءاته خلال الأسبوعين الماضيين مع الطرفين، مجلس القيادة الرئاسي وجماعة الحوثي، لوضع اللمسات الأخيرة على الاتفاق، لكن مع اتساع رقعة التصعيد الحوثي - المرتبط بغزة كما تقول الجماعة - وعدم وجود أفق أو مدى واضح لنهاية العمليات الإسرائيلية في غزة يبدو استمرار الصراع لوقت أطول هو الأرجح، ما يقلل من فرص إعلان التسوية للصراع المحلي -الإقليمي الممتد منذ ٩ سنوات، لصالح استمرار التطورات العسكرية المرتبطة بعمليات التحالف الجديد لحماية الملاحة وما يمكن أن تؤول اليه المساعي الدولية في ردع تهديدات الحوثيين، وهو ما سيحول البحر الأحمر إلى ساحة نشطة تحضر فيها إيران بشكل أكبر سواءً بشكل مباشر أو غير مباشر.
صعّد الإيرانيون خلال الأسابيع الماضية من اهتمامهم بهذا التطور غير المتوقع في البحر الأحمر بدءً من المرشد الأعلى وكذلك قادة الجيش والحرس الثوري، من خلال تصريحات تشير إلى طبيعة ما أوْحَت به تطورات ما بعد ٧ أكتوبر إلى أذهان صناع القرار الإيرانيين من استنتاجات ومفاهيم بشأن الاستراتيجية التي تنتهجها طهران حيث قال المرشد الإيراني إن من المهم الاتجاه إلى زيادة قدرات القوات البحرية لجعل القوات البحرية للجيش الإيراني قوة استراتيجية وشاملة.
أما وزير الدفاع الإيراني الذي يمكن القول بأنه "أخطأ من شدة الفرح" عندما قال مأخوذاً بنشوة نجاح العرض الحوثي بإغلاق البحر الأحمر وباب المندب أمام السفن المتجهة إلى إسرائيل ان "البحر الأحمر منطقتنا" طبقاً لما نشرته قناة العالم الإيرانية باللغة العربية وشكك لاحقا مسؤولون إيرانيون آخرون بان هناك "خطأ في الترجمة" بتصريحات الوزير التي واجهت انتقادات، وحرَج حتى من الحوثيين أنفسهم.
لكن الكثير من تصريحات المسؤولين الإيرانيين، تشير إلى أن طهران تعتبر ما يحدث في البحر الأحمر بمثابة، ثمرة (سريعة) لاستثمار إيران في معركة غزة وقضية فلسطين عموما، ونتيجة (ناضجة) لاستثمار طويل الأجل في دعم ورعاية الحوثيين في اليمن منذ عقود.
ويوم السبت الماضي، قال مساعد الحرس الثوري الإيراني الجنرال محمد رضا نقدي، إن استمرار حرب غزة سيؤدي إلى إغلاق مضيق جبل طارق والمتوسط "بعد أن أصبح الخليج ومضيق هرمز كابوسا للأعداء وباب المندب تم حصارهم فيه" وهو ما يؤكد تلاقي الفرصة من خلال استثمار طهران لحرب غزة وتزامن ذلك مع الاستعداد الإيراني للتوسع في البحار، وتدشين مستوى جديد ومتقدم في حروب إيران الخاصة خارج حدودها.
ومنذ بدء الهدنة وتوقف الحرب، في أبريل ٢٠٢٢، اتجه الحوثي إلى التركيز على تطوير قواته البحرية، ويبدو ذلك واضحا من خلال العودة للتقصي في كمية ومستوى الاجتماعات والأنشطة العسكرية الحوثية في الحديدة وأجزاء من حجة، وأكد ذلك قائد المنطقة العسكرية التابع للجماعة والمشرف على العمليات البحرية يوسف المداني، اذ صرح لإذاعة حوثية قبل أسبوعين أن المجاميع التي نفذت عملية اختطاف السفينة "جالكسي ليدر" "خضعوا للتدريب بشكل مكثف لمدة عامين على جميع فنون القتال البحري بما فيها قيادة السفن".
ونشر "المصدر أونلاين"، الأسبوع الماضي عن مصدر خاص، جزءً من تفاصيل اجتماع عسكري رفيع عقده زعيم الحوثيين ووجه فيه بتحويل كل الإمكانات العسكرية للجماعة إلى "التصنيع البحري وبناء القوات البحرية".
وبالتالي فإن البحر الأحمر، سيستمر ساحة صراع رئيسية ونشطة، حتى بعد توقف حرب غزة، لضمان إيران الحفاظ على المساحة المكتسبة عبر الحوثيين والبناء عليها، ما يجعلها في حالة مناوشة مستمرة سواء بمستويات "منضبطة" ولكن "متصاعدة" مع ما يجلبه ذلك من تأثيرات على استقرار اليمن خلال السنوات المقبلة وتحوّله إلى "ساحة وسيطة" لإيران في صراعها بالمنطقة.
وخلال العامين الماضيين، تحديدا، كثفت إيران من عملياتها الاعتراضية في مياه الخليج والبحر العربي ضد سفن دولية ونقل الاستراتيجية إلى البحر الأحمر، أو من خلال تدخلات خشنة يقوم بها الحوثي باستمرار من منطلق حماية المياه الإقليمية للسواحل اليمنية وما يقابلها من المياه الدولية. كانت آخر عملية في إطار هذا النوع التصعيد الإيراني، تعرض سفينة مرتبطة بإسرائيل في المحيط الهندي لهجوم بطائرة مسيرة يعتقد أنها إيرانية.
ومن حيث شكل الصراع المستقبلي في البحر الأحمر، على غرار استراتيجية إيران الحالية في إزعاج متدرج للوجود الأمريكي في العراق- للمناورة ضد الوجود الغربي والدولي الذي يتشكل الآن بقيادة أمريكية بدعوى ردع تهديدات الحوثيين في البحر الأحمر، وبالتالي يمكن القول إن التطورات الحالية بعد ٧٠ يوما من الحرب الإسرائيلية الوحشية على غزة، قد وفرت وأنضجت -على عجل- ساحة صراع ملتهبة تتوفر فيها كل مقومات صراع طويل الأجل والمعقد؛ وتحوّل اليمن، في جزئه الساحلي إلى ميدان للمناورة بين مختلف القوى الإقليمية والدولية سيضمن فيها الحوثي دوراً فاعلاً لإيران تحقّق من خلاله نقاطاً على المسرح الإقليمي والدولي، فيما يدخل اليمن من جديد في صراع مركب من مستويات محلية ودولية متداخلة ومعقدة والبقاء في الرحى لسنوات طويلة وربما لعقود.
هناك إمكانية وحيدة لتفادي هذا المسار القاتم، وتكون ممكنة في حال انتهت حرب غزة بشكل أسرع، شرط أن تنجح السعودية انطلاقاً من استراتيجيتها في ضرورة إخماد واحتواء التهديد الحوثي عبر عملية سياسية، رغم ما قد تشكله العمليات الحوثية من قلق أكبر للسعودية، وستجد الرياض نفسها معنية باحتواء التداعيات الأولية لما يجري بالبحر الأحمر الآن، وإقناع التحالف الدولي بتجميد نشاطه، وسينجح هذا المسار فقط في حال أعاد الحوثيون حساباتهم وأقنعوا الراعي الإقليمي بأنه يمكنهم في اللحظة الراهنة الاكتفاء بالإنجاز الحالي والتركيز علي جني مكاسبه داخلياً، مع مواصلة مراكمة قوته البحرية لسنوات قادمة من الحتمي أن تعود المعركة بارتباطات إقليمية مشابهة.