2015-03-08 الساعة 10:14ص
من يسمع مذيعي قناة المسيرة اليمنية التابعة للحوثيين، وهم يحتفون بوصول أول طائرة إيرانية إلى صنعاء، بأصوات متهدجة بالفرح المبتذل، وبكلام فيه قدر كبير من المبالغة والإسفاف، يشعر بأن كل أسطوانات الحوثي عن السيادة اليمنية والاستقلالية مجرد هراء.
في المقابل، لا تبدو الصورة أفضل، عندما تظهر صورة الرئيس عبدربه منصور هادي منتشياً بسذاجة، وهو يقف قرب السفراء الخليجيين، وكذلك السفير الأميركي الذي يزوره في اليوم التالي لوصول أول رحلة إيرانية.
تبدو حالة البهجة الحوثية المبتذلة لوصول أول طائرة إيرانية أمراً مفهوماً، فكل الحركات السياسية، دون الوطنية، المرتكزة على عصبية ما، ولا تمتلك سوى رؤى متخلفة حول السياسة والاقتصاد، هي مرتهنة كلياً للخارج، وبقدر انحصارها في عصبيتها يزداد التصاقها بالخارج.
يختلف الوضع بالنسبة لرئيس شرعي، مثل هادي، اكتسب شرعيته من عملية انتخابية بدون منافسة، أقرب إلى المبايعة، لكن هذا لم يمنع ملايين تجاوزوا الستة من التصويت له، ومن ثم ملايين أخرى تظاهرت ضد الانقلاب.
وعلى الرغم من هذا، يعول على الخارج أكثر من الداخل، فهذا تعبير عن عجز الرئيس الخامل وضعف أفقه.
منذ فرار هادي من مقر إقامته الجبرية إلى عدن، قبل نحو أسبوعين، لا نتلقى له سوى أخبار لقائه السفراء والمبعوثين الدوليين، لكنه لم يوجه خطاباً للشعب اليمني.
بينما لم يوفر الحوثيون جهدهم، وهم يتحركون بأقصى طاقة ممكنة، في كل اتجاه داخلي وخارجي، لملء الفراغ السياسي الهائل الذي خلقهم، وأعطاهم حجماً يفوق حجمهم عدة مرات.
بين المشهدين في صنعاء وعدن، يبدو جلياً أن اليمن دخل أتون الصراع الإقليمي من أوسع أبوابه. فالحوثي، اليوم، قطع كل خطوط العودة المحتملة مع السعودية، عندما يفصح، لأول مرة، عن توجهه نحو طهران بهذا الشكل. كان الحوثيون، سابقاً، ينكرون بصراحة علاقتهم مع إيران، وفي أحسن الحالات، يقولون إنها علاقة صداقة ضد قوى الاستكبار، لكن لا خصوصية فيها.
ولم تكن قيادات الجماعة تهاجم الدولة السعودية صراحة، بينما كانت تترك جماعتها تلوك مزايداتها التقليدية ضد التدخل السعودي والسيادة اليمنية، مستثمرة الإرث الطويل من التدخل السعودي، غير المريح، في الشأن اليمني.
انتهى وقت المواربة، وصار الصراع مكشوفاً، عندما أغلقت السفارات الخليجية في صنعاء، ثم سارعت إلى الاعتراف بشرعية الرئيس هادي، وفتح سفاراتها في عدن، بينما رد زعيم الحوثيين، عبدالملك الحوثي، بعبارات عدائية وفظة ضد السعودية، في آخر خطاب له قبل أيام، وهذه أول مرة تحدث من زعيم الجماعة، ولم يكن يحدث حتى على مستوى قيادات الصف الثاني.
أربع عشرة رحلة أسبوعياً بين صنعاء وطهران، يعتبرها الحوثيون فرصة لكسر عزلة اليمن، بعد إغلاق عشرات السفارات في صنعاء، لكنهم ينسون أن إيران لم تنجح في كسر عزلتها عبر سنوات طويلة، والأهم أنها ليست الدولة التي يعمل على أراضيها مئات آلاف اليمنيين، وليست وجهة علاج لليمنيين، ولا هي بلد يعني رجال الأعمال والمستثمرين، ولا يخصص آلاف المنح الدراسية لليمنيين.
باختصار، هذه رحلات لأغراض سياسية، لا تعني بقية الشعب اليمني، وهنا الفرق بين التدخل الإيراني ونظيره الخليجي.
إيران، على عكس دول الخليج، لا تمتلك قوة ناعمة في اليمن، فلا وجود لمشاريع وتبرعات ومباني جامعات ومستشفيات مولتها إيران، مثل ما فعلت دول الخليج، الكويت تحديداً.
ولا تستقبل عمالة يمنية بالملايين، مثل السعودية، ولا تمتلك لغة مشتركة مع اليمنيين تسهل من زيارتهم لها كالعلاج مثل الأردن ومصر، ولا دولة تقدم منحا تعليمية لآلاف اليمنيين، ولا حتى تملك أي مقومات ثقافية يذكرها بها المواطن اليمني، سوى تشيّعها ودعمها المقاومة، والذي أساء لها توظيفه الطائفي.
باختصار، تحضر إيران في اليمن طرفاً خارجياً، يؤجج الصراع الداخلي، ولا يمتلك أي شكل من القوة الناعمة.
فتغيب عن تدخلها هذه القوة، وكذلك أدواته أكثر دموية، فهو يعتمد بشكل كبير على الطائفة، بينما كان يعتمد التدخل السعودي على القبيلة.
والفارق بين الطائفة والقبيلة في الصراع مهم، فالطائفة تكوين ديني مقدس، وانخراطه في السياسة دوماً ذو طابع عسكري دموي، لأنه انخراط يبرر للحرب ويحشد لها بسهولة، بعكس القبيلة التي تمتلك إرثاً من الأعراف والعادات لوقف الحرب، أو منع وقوفها، لخشيتها من الدخول في دوامة الثأر.
هذا الفارق تصنعه حقيقة أن القيادات الدينية، عادة، تظل في مواقعها المقدسة، بلا خشية من الحرب، بينما تشارك قيادات القبيلة أبناءها في القتال، وتتحمل مسؤولية القتلى منهم، مثل إعالة أسرهم وغيرها، بينما لا تقدم القيادات الدينية سوى وعود وهمية مقدسة بالجنة. حتى التبشير الوهابي السعودي كان أكثر نعومة، فمثلاً تمددت الوهابية في المناطق الزيدية، وضيقت على علمائها، واستولت على بعض المساجد، لكنها لم تدمر المساجد وتفجرها بشكل احتفائي أمام الكاميرات التي تقدم لنا صور التفجير بخلفية الشعار الديني “الله أكبر.. الموت لأمريكا”.
ولهذا علاقة بطبيعة التدخل السعودي الذي كان يسعى إلى جعل اليمن دولة ضعيفة، من خلال تقوية القبيلة على حساب مؤسسات الدولة، ليظل اليمن دولة موالية ومساحة نفوذ خاصة بها.
في المقابل، طبيعة التدخل الإيراني سعي إلى جعل اليمن ساحة صراع، وليس مجرد دولة ضعيفة، حيث تعاملت مع اليمن كإحدى مساحات الصراع الجديدة، لتقوية وضعها التفاوضي، من دون اكتراث لتعزيز حضورها الناعم لدى المواطن اليمني.
يظل لكل زمان ناسه، فبينما تدعم إيران جماعة دينية شابة، ما زالت السعودية أسيرة تحالفاتها القديمة والعجوزة في اليمن، ودعمها الرئيس هادي في مواجهة الحوثي لن ينفع كثيراً.
فعلى الرغم من الأهمية الفائقة لرمزية الدولة وشرعيتها التي يمثلها هادي، إلا أن خمول الرجل وضعف تفكيره لن ينجح في توظيف هذه الرمزية والشرعية، واستثمارها في مواجهة الحوثي الذي حسم أمره، واتخذ قرار الحرب، ليستكمل سيطرته العسكرية على اليمن، بما فيها المحافظات الجنوبية.
هذا مما قد يدفع السعودية ودول الخليج إلى دعم القبائل في مواجهة الحوثي، والقبيلة ستحارب الحوثي تحت لافتات قبلية ومناطقية عدة، حتى تغلبها النزعة الدينية- الطائفية، وتغرق البلد في أتون حرب طائفية.
زمن القبيلة السياسية الذي أضعف الدولة اليمنية هو الذي أفرز زمن الطائفة السياسية الذي دمرها، وتنتقل اليمن من ساحة نفوذ للسعودية التي خسرت كثيراً على المستوى الشعبي في اليمن، ولم تضمن لحضورها ديمومةً، لأنها أرادت اليمن تابعاً، وليس جاراً، إلى ساحة صراع بدخول إيران التي لا تمتلك أي قاعدة شعبية، وخسرت أي حضور شعبي مقدماً، بسبب حضورها الدموي والقصير، حتماً، في اليمن الذي يعيش إحدى أكثر مراحله التاريخية سواداً ودموية.