أهم الأخبار
سامي الكاف

سامي الكاف

جغرافيا تستنزفها الحروب!

2025-12-04 الساعة 11:17م

لا تعود الجغرافيا، في لحظات التحوّلات الكبرى، مجرد مساحة تُقاس بالحدود، بل تتحول في تصوري إلى مرآة تعكس موازين القوة وتداخل المشاريع الإقليمية. وهكذا لم يعد اليمن، في ظل المعطيات المتراكمة، ساحة لصراع داخلي بحت، بل عقدة استراتيجية يتقاطع فيها المحلي بالإقليمي، وتذوب فيها الحدود الوطنية أمام شبكات نفوذ تتقدّم بثبات.

 

في الواقع إنّ ظهور اعترافات معلنة بدور حزب الله وإيران داخل اليمن لا يكشف مجرد علاقة دعم، بل يطرح سؤالاً حول طبيعة السيادة حين تصبح الأرض الوطنية جزءاً من خرائط تُرسم خارجها. ومن هنا تتقدم الحاجة إلى قراءة هادئة تكشف كيف انتقل الصراع من حدود الدولة اليمنية إلى مجال جيوسياسي أوسع يعيد تشكيل أمن الإقليم بأكمله.

في اعتقادي أن المعطيات المؤكدة - وعلى رأسها إعلان أمين عام حزب الله نفسه عن بقاء القيادي هيثم الطبطبائي في اليمن تسع سنوات من 2015 إلى 2024 للتدريب والإعداد - تكشف أن الجغرافيا اليمنية تحوّلت بالفعل إلى امتداد مباشر للمشروع الإيراني في الإقليم، لا مجرد ساحة صراع محلية.

فالمناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين لم تعد مجرد منطقة نفوذ لفاعل داخلي منقلب على الدولة بقوة السلاح، بل تحولت إلى قاعدة متقدمة تهدد الأمن القومي العربي والممرات المائية الحيوية، وتعيد إنتاج نموذج "جنوب لبنان" على أرض يمنية.

لا يعود الأمر هنا تحليلاً سياسياً تقليدياً، بل اختباراً لطبيعة العلاقة بين الجغرافيا والسيادة حين تندمج الحدود الوطنية في خرائط نفوذ عابرة للدول.

في الواقع أن وجود شخصية عسكرية بحجم رئيس أركان حزب الله داخل اليمن كل هذه السنوات يجعل توصيف الحوثية بوصفها "مكوناً محلياً" مجرد ادعاء يتهاوى أمام الوقائع. فالإشراف العسكري الخارجي - الذي بات معلناً - يعني أن القرار العسكري للحوثيين لم يكن نتاجاً لبنية يمنية خالصة، بل جزءًا من منظومة إقليمية تُدار من الضاحية الجنوبية وطهران.

وعندما تنبع تكتيكات القتال من خبرات حزب الله، ويأتي السلاح من إيران، بينما تكون الدماء التي تُدفع على الأرض يمنية، يصبح مفهوم "السيادة" نفسه معلقاً في الهواء، يفتقر إلى ركيزته الأولى: امتلاك القرار.

وعليه يتقدم السؤال الذي يفرض نفسه بحدة: من يحكم صنعاء فعلياً؟ عبدالملك الحوثي أم فيلق القدس أم حزب الله؟ فاعتراف حزب الله لا يكشف فقط عمق التدخل، بل يكسر في تصوري القناع الذي كانت تخشاه الحوثية لأنه ينسف خطاب "الاستقلال" من جذوره.

وإذا كان الطبطبائي قد أمضى تسع سنوات في بناء القدرات الحوثية، فهذا يعني أن اليمن لم يعد مجرد مساحة نفوذ، بل محطة استراتيجية في مشروع تطويق الأمن القومي العربي من البحر الأحمر إلى باب المندب.

ومع هذا الواقع الماثل على الأرض، تصبح القضية ليست صراعاً على سلطة داخل وطن، بل صراعاً على هوية وطن تُعاد كتابتها من خارج حدوده.

في نهاية المطاف، لا تقف القضية عند حدود التدخل أو طول مدته، بل عند ما تعنيه هذه المعطيات لمستقبل السيادة اليمنية ومصير المنطقة. فوجود قيادة عسكرية خارجية بهذا الحجم، وتأثيرها المباشر في القرار والقدرة القتالية للحوثيين، يضع اليمن في قلب مشروع إقليمي يتجاوز إرادة الدولة والمجتمع معاً.

وهكذا يصبح جوهر الصراع اليوم ليس على السلطة فحسب، بل على تعريف الوطن نفسه: أهو كيان يملك قراره، أم حلقة في سلسلة نفوذ تُدار من خارج حدوده؟

إنّ الإجابة عن هذا السؤال هي ما سيحدد مآلات اليمن، وحدود الأمن العربي، وشكل الخريطة الإقليمية التي تتشكل بصمت فوق جغرافيا تستنزفها الحروب.

 

* (المصدر أونلاين)

شارك برأيك
إضافة تعليق
الأسم
الموضوع
النص