2015-10-12 الساعة 10:00ص
تأتيني كتب كثيرة من المغرب، وجاوا، ومصر، وسوريا، والعراق، ونفس فلسطين بلدكم، مقترحا أصحابها عقد مؤتمر إسلامي أو انتخاب خليفة أو ما أشبه ذلك، ويكون جوابي دائما: يجب أن نؤسس من تحت، يجب أن نُربّي الفرد...، أما أن نعقد مؤتمرا مجموعا من أفراد ليس لهم إرادة مستقلة وهم لا يقدرون أن يُنفّذوا قرارا، فما فائدة ذلك؟ أتريد أن نجمع أصفارا؟".
تلك هي رسالة أمير البيان شكيب أرسلان إلى أحد أبناء فلسطين، ولله دره من مفكر واسع المدارك، ممتدّ الأفق، ينفُذ إلى أعماق القضية، مُستندا إلى سنن الله المضطردة بين عباده.
فإلى الذين يتعجلون رأسا للأمر العام يلتفّ الناس من حوله، انظروا إلى من هم تحت الراية، وإلى كمّ الأصفار التي تنضوي تحتها، لتدركوا أن القضية ليست قضية عقد لواء، أو تنصيب رمز للقيادة، إنها القاعدة العريضة التي ينبغي أن ينتقل أصفارها من السكون، ليكونوا أعدادا صحيحة.
الصفر هو التعبير عن حالة السلبية التي هيمنت على واقع الأفراد، أولئك الذين تتلخص قصة الواحد منهم في أنه: ولد، وعاش، ثم مات، هكذا دون أن يترك أثرا، أو يكون له نصيب من البذل والتفاعل مع قضايا أمته.
همّته لا تجاوز قامته، هو عرفجي الهمة والعزم، أتدري ما عرفجي الهمة؟
سمع رجل آخر يدعو قائلا: اللهم أمتني ميتة "عرفجة"، فظن السامع أن الرجل قد مات شهيدا، أو عاش سديدا، أو لقى الله صائما أو قائما فقابله بفعل حميد، فسأله سائل: ومن عرفجة هذا؟ وكيف مات؟
فأجابه: هذا رجل أكل لحما مشويا، وشرب ماء نميرا طيبا، ونام في الشمس، فمات، مات على شبع وِريٍّ ودفء، فما أحسنها من ميتة".
* يقول الكاتب والروائي الفرنسي "أنطوان دي سانت أكسيبري": "يصبح للحياة معنى فقط عندما يحياها الإنسان يوما بعد يوم، من أجل شيء آخر بخلاف الحياة نفسها".
وكما قال الأديب الرافعي: "إذا لم تزد على الحياة شيئا فأنت زائد عليها".
الأصفار قد استراحت عقولهم، وآثروا الراحة والدعة والتقوقع، وكانوا كمن قيل فيهم:
تبلد في الناس حس الكفاح ومالوا لعيش وكسب رتيب
يكاد يزعزع من أمتي سدور الأمين وعزم المريب
استراحت عقولهم عندما جعلوا الإصلاح والتغيير نافلة يأتيها أحدهم وقت فراغه ورخائه واعتدال مزاجه، دون التماس مع الأزمات، وبغير أن يُعرّض نفسه لشحنات اصطكاك الحق بالباطل.
وقديما دخل أحدهم على الإمام أحمد في الحبس، عندما كان يناضل في ميدان الصراع العقدي ضد المعتزلة، يحثه على الأخذ بالرخصة والقول بالتُقية فيما ذهب إليه الحاكم المتأثر بالاعتزال، فقال له: يا أبا عبد الله، عليك عيال، ولك صبيان، وأنت معذور، فواتاه الإمام أحمد بالرد فورا: إن كان هذا عقلك يا أبا سعيد، فقد استرحت"، فما أكثر العقول المستريحة في أمتي!
* الصفر صاحب روح خامدة، كالنسر يقع على الجيف، تطلّعاته لا تتجاوز تلبية المشترك مع بهائم الأنعام، فمثله لا يُشيّد حضارة ولا يصنع نهضة.
وبضدها تتميز الأشياء كما قال المتنبي، فدونك عمر بن عبد العزيز يصف لنا طموحاته وتطلعاته ونفسه الوثابة للمعالي فيقول: "إن لي نفسا تواقة تاقت إلى فاطمة بنت عبد الملك فتزوجتها، وتاقت إلى الإمارة فوُليّتها، وتاقت إلى الخلافة فأدركتها، وقد تاقت إلى الجنة فأرجو أن أدركها".
* أبو مسلم الخراساني رغم مساوئه وضلاله، إلا أن همته جعلته وهو صغير يتقلب على فراشه، فتقول أمه: ما بك؟ فيقول: همة يا أمي تناطح الجبال.
الصفر دائما يبرر سلبيته وقعوده بالواقع المر، دون أن يتجشّم الصعاب ويصارع الأمواج، ولا يفرق بين الصعب والمحال، أسير هواجس الفشل، يتهيب صعود الجبال، ويقنع أبد الدهر بالعيش بين الحفر.
* لله در القائل: "النملة تكرر الصعود ألف مرة، والنحلة تذهب كرَّة بعد كرَّة، والذئب من أجل طعامه هجر المسرَّة، لمَّا هوى السيف قَطَع، ولمَّا اشتعل البرق سَطَع، ولمَّا تواضع الدر رُفِع، ولمَّا جرى الماء نفع، الكسول مخذول، والهائم نائم، والفارغ بطال، وصاحب الأماني مفلس".
هؤلاء الأصفار يقبعون أسارى عقدة المستحيلات، ويصنعون الفشل بأيديهم، يقول الدكتور إبراهيم الدويش أستاذ قسم السُنة بجامعة القصيم: "كم من المرات نضع بأنفسنا العقبات والعراقيل أمام كثير من مشاريعنا، نحن بأنفسنا نصنع العقبات ونضع العراقيل، والواقع يشهد بهذا، فلماذا عذر المستحيل وعدم الاستطاعة هي الورقة التي نلوح بها دائما فنغلق بأيدينا الأبواب في وجوهنا؟".
صدق الرجل، فما نراه محالا قد ينزل إلى خانة الصعب، وما نراه صعبا قد يبدو سهل المنال، فقط بالمحاولة وببذل الجهد.
عندما سُئل نابليون كيف استطاع أن يولّد الثقة في جنوده، قال: كنت أرد على ثلاث بثلاث: من قال لا أقدر، قلت له حاول، ومن قال لا أعرف، قلت له تعلم، ومن قال مستحيل، قلت له جرب.
أعلم أن السلبية التي رانت على الأمة إنما تكوّنت بفعل الاضطهاد والاستبداد والقهر، الذي أطفأ في الشخصية الإسلامية العربية جذوتها، وأفقدها وهجها.
وأعلم أن الكثيرين من أبناء الأمة الذين وقعوا في مستنقع السلبية والركون إنما كانوا ضحايا أفهام فاسدة للدين، عندما اختلط الزهد في معناه السامي بالانزواء والتقوقع وترك التعاطي مع الواقع، عندما حدث الفصام النكد بين الدنيا والآخرة في حس بعض المؤمنين وتصوراتهم.
وأعلم أن سطوة الباطل وهيمنة العدو قد فرض على الناس نوعا من اليأس والرضا بأن يكون المرء هملا، ويترك أسباب القوة لغيره ليحوّلوها سلاحا يشهر ضد الحق وأهله.
ولكن كل هذه الأسباب والأوضاع، ليست مبررا للركون إلى الواقع المر، والقعود عن محاولات التغيير وبذل الجهد للإصلاح.
لا يليق بخير أمة أخرجت للناس، أن يجلس بنوها منتظرين ظهور المهدي، أو اندلاع الملحمة الكبرى، أو انتظار العيش الرغد والأمن والأمان في زمن المسيح آخر الزمان.
ولننظر بعمق إلى تجارب الأمم والدول، والتي نهضت من جديد بعد أن اختفت معالم الحياة فيها إبان الحرب العالمية الثانية، اليابان وألمانيا.
وأعود لأكرر: هي مهمة قادة الرأي والنخب الفكرية والثقافية والدينية، في بعث روح الإيجابية في هذه الأمة من جديد، والاهتمام بصفات القوة والأمانة معا {إن خير من استأجرت القوي الأمين}، فلا نريد القوي المستبد الزائغ، ولا نريد الثقة الضعيف.
وأختم بمقولة للدكتور عبد الكريم بكار، توقد في نفسي الحماسة للبذل كلما قرأتها: "يصبح المرء كبيرا حين ينجز الأعمال الكبيرة، ويصحب المرء أشبه بالأموات حين يعجز عن إنجاز الأعمال الصغيرة، أما الرواد فإن مهمتهم شق الطرق في الأماكن الوعرة حتى يمضي خلفهم الكبار والصغار، وبالإخلاص والصدق وبالمثابرة والعزم يمكن للمرء أن يجد نفسه بينهم".