2016-05-13 الساعة 07:39م
في كل مرحلة تاريخية، يطغى نمط من التعامل مع الأزمات الدولية. فما من حروب تشن، سواء كانت تقليدية أو غير ذلك، إلا ويقف خلفها هدف سياسي، أو تغدو عدمية. هكذا كان التاريخ الإنساني دائماً وأبداً. وتنتهي الحروب، عادة برفع أحد الأطراف الراية البيضاء.
في الوطن العربي، مرت بعض أقطاره، في السنوات الخمس الأخيرة، بسنين عجاف. فقد شمل «الربيع العربي»، عدداً من البلدان العربية، لم تسلم من عسكرة حركتها الاحتجاجية سوى تونس ومصر. وهما البلدان العربيان الوحيدان، اللذان شهدا انتقالاً سلمياً في السلطة. لكن الأوضاع مختلفة تماماً عندما يتعلق الأمر باليمن وليبيا وسوريا ، والعراق منذ احتلاله عام 2003.
ورغم ضراوة المعارك التي شهدتها هذه البلدان وقسوتها، والدماء الغزيرة التي سفكت فيها، والدمار الهائل في الإنسان والحجر، وتحوّل بعضها إلى ما يقترب من الحروب الأهلية، ودخول أطراف دولية عدة على الخط، فإن نتائجها ظلّت معلقة حتى هذه اللحظة. وليس بإمكان أي طرف من أطراف الصراع، الادعاء بأنه حقق نصراً حاسماً لصالحه.
والحروب لا تتوقف، وفقاً لنظرية الصراع وحل الصراع، إلا في حالتين. الأولى، هي الهزيمة الماحقة لفريق من المتحاربين، وفرض شروط الاستسلام عليه. والثانية، هي اعتراف كافة الأطراف بعدم قدرتها على تحقيق الحسم، بما يخدم مصالحها وأهدافها. وحينها يصاب المتحاربون بالإنهاك، ولا يغدو أمامهم سوى العودة إلى طاولة المفاوضات، والقبول بمكتسبات جزئية، بعد اعترافهم بالعجز، عن تحقيق أهدافهم من خلال فوهات البنادق.
إن سيرورة البحث عن أسلوب لإنهاء الصراع، عن طريق المفاوضات، في ظل الواقع الدولي الراهن، لن يكون ممكناً إلا برعاية مشتركة، من صنّاع القرار الأممي الكبار. ولن يكون ذلك ممكناً إلا إذا وثق المتفاوضون في رعاية أحد أطراف المعادلة الدولية لمصلحتهم. على أن ثمة مواصفات وظروفاً لا بد من توافرها لتسهيل حل الصراعات، هي اتفاق الكبار أنفسهم، على فشل المشروع العسكري في دعم حلفائهم، ورأوا أن بالإمكان إيجاد صيغة مقبولة للحل.
بمعنى آخر، لا يمكن الوصول لحل سلمي لأي نزاع إلا إذا أبدت مختلف أطرافه استعدادها لقبول الحل. وفي هذا السياق، يعتبر اختيار التوقيت لفض النزاع بأسلوب يقبله جميع الأطراف أمراً لا يقل أهمية عن سواه من العوامل. وفي هذا السياق، يدرك الغرماء، كل من منطق انتمائه، معضلة الموازنة بين ما يتوقون لتحقيقه، نسبة إلى خسارتهم فيما لو أقدم أي منهم نحو المصالحة أو التنازل.
والقبول بالحل السياسي، يعني في أبسط أبجدياته، أن لا قيمة مطلقة لأي هدف كان. فالأهداف تتغير في أي سيرورة مرتبطة بصراع ما، خاصة حين ترتفع تكلفة تحقيق الهدف وفي ضوء بروز خيارات أخرى، وحين تكون للحرب أهداف وقيم، فإنها في العادة تأتي نتيجة تصورات ذاتية. والأهداف المعلنة ليست دوماً الأهداف الحقيقية. ويبدو هنا أن ثمة بعض الدوافع الداخلة في اللعبة دون أن يكون الوعي مدركاً لها بشكل كاف.
وليس أدل على صحة قراءتنا هذه، من اختفاء شعارات عربية كبرى، سكنت في اليقين زمناً طويلاً، وكانت من ضحايا حقبة «خريف الغضب العربي». فمنذ الاحتلال الأمريكي للعراق، غاب العمل العربي المشترك، وتراجع الاهتمام بالقضية المركزية للعرب، قضية فلسطين، ومعها اختفت شعارات كبرى، كالوحدة العربية، والتنمية المستقلة، والعدل الاجتماعي والغنى والفقر والدولة الوطنية، ومشاريع النهضة.
وللأسف فإن البديل عن هذه الشعارات، كانت مشاريع ناكصة، طائفية وجهوية وعشائرية وقبلية، ودينية، وشملت مفردات الفيدرالية والقسمة الطائفية، وأمراء الحرب والطوائف. وليس على المرء سوى توجيه النظر، للخريطة الراهنة للوطن العربي المقهور، ليتأكد من صحة ذلك.
في العراق وسوريا، بدا المشهد طائفياً بامتياز، وفي اليمن اختلطت في الصراع الدامي صراعات الطوائف والقبائل. وفي ليبيا سقط العقيد، ومعه سقطت ليبيا، وكأن استمرار الجغرافيا رهن بحضور الزعيم. دمر الناتو البلاد، ثم تركها لعصابات التطرف والإرهاب. وفي هذه الحالات جميعاً، دمرت كيانات وصودرت أوطان، ولم يتبق من الماضي سوى عناوين باهتة، لم تعد تعني شيئاً للمواطن الباحث عن الحياة والمأوى.
بدا المشهد جملة طلاسم ومجموعة شيفرات بحاجة إلى تفكيك وتعليل، مع أن قراءة المشهد، بات واضحاً منذ طرح مشروع «الشرق الأوسط الجديد» و«الفوضى الخلاقة» التي سينبثق المشروع من رحمهما، وبدا أمراً واقعاً منذ تمت استباحة، مدينة بغداد عاصمة العباسيين، ونهب متاحفها وحرق مكاتبها وجامعاتها.
وأغرب ما في المشهد الراهن، أن القوى الكبرى، التي رفضت تاريخياً النظر لنا باعتبارنا أمة واحدة، يجمعها تاريخ وجغرافيا مشتركة ولغة واحدة، وصنفت المنطقة الممتدة من الخليج إلى المحيط، عالماً عربياً، بثقافات وأجناس مختلفة، تناست في طرفة عين تنظيراتها القديمة، ووضعتنا في كفة واحدة، حين أطلقت تعبير «الربيع العربي»، على البلدان التي مرت بها الأحداث الدراماتيكية. لكن لتوازنات القوة أحكامها.
لقد ثبتت الثنائية القطبية، الكيانات الوطنية، التي أقرها مقص المحتل، في اتفاقية سايكس - بيكو، وما يماثلها. أما الأحادية القطبية، فكانت انفلاتاً لمارد الكاوبوي من عقاله، وبالنسبة لنا نحن العرب، عنت تفتيت المفتت وتجزئة المجزأ ومصادرة الكيانات والهويات الوطنية.
تغيرات كبرى على خريطة صناعة القوة، بدأت تعبر عن نفسها في الأعوام الأخيرة. وحين تتغير توازنات القوة، فإن ذلك يعبر عن نفسه في مجال السياسة. برز التنين الصيني وعاد الدب القطبي بقوة، وتشكلت منظمات جديدة على أسس سياسية واقتصادية أخذت بالتشكل، بما يشي بانبثاق مرحلة التعددية القطبية، وسوف تترجم حضورها في تسويات تاريخية، سيكون هذا الجزء من العالم في القلب منها، شأنها في ذلك شأن كل التحوّلات السياسية الكبرى في التاريخ الإنساني.
الخليج