2018-01-24 الساعة 01:43م
الشعور بالنقص حالة مرضية يعوض صاحبها نفسه بتغطية احتياجاته عبر البحث الدائم عما ينقصه، أما وجود النقص فشيء أخر، وطبيعي في كل مستويات الحالة الإنسانية والتجارب البشرية الجماعية والفردية، يقول أحدهم وهو شاعر بالنقص متخفي، في ثياب غيره وقد بطأ به عمله وضعفت حجته ونقصت خبرته وأصبح عديم الكفاءة، وصار كمن يبحث عن نسب يسرع به ويوصله لقوائم البوكر بدلاً من تجديد وتطوير قدراته وأسلوبه، "أنت ناقص" هكذا قال لأني لامست بمشرطي مواضع الوجع وأقمت ندوة تحدثت فيها مع مجموعة من زملائي الباحثين وكان ضيفنا فيها حبيبنا الفنان الكبير فهد القرني عن الهاشمية السياسية بكل موضوعية، لم نجرح ولم نقدح في أحد عرفت فيها بدقة من هو عدو اليمن وازحت شيئا من الغبش، لا خلاف مع الهاشميين ولا مع غيرهم فاليمن دولة لا عرق وحضارة لا قبيلة، ووطن لا ميراث، عدونا جميعا من يرى لنفسه أفضلية اجتماعية أو سياسية أو دينية أو اقتصادية بدون حق، فالدين كما أعرفه أنا مساواة وحرية وشورى واختيار لا جبر فيه، لكن بعد مراجعة العبارة وتأملها يبدو أن هذا الكائن لديه شيئا من الحق فيما قاله، فما الذي ينقصني أنا المواطن اليمني؟
وللإجابة على السؤال أعلاه سأترك مضطرا الحديث بصفة الأكاديمي والصحفي والباحث، وسأتحدث إليكم اليوم كمواطن يمني وبكل شفافية فأرجو المعذرة منكم يا أصدقائي يا من نذرت نفسي للكتابة لكم وحدكم ..
بشر أنا أعيش في عصر الطرق السريعة للمعلومات، وشاهدت بعيني تجارب الجيل الخامس من شبكات المعلومات وقدرتها الفائقة على النقل والتراسل، والتفت إلى الخلف وهناك من يناديني بصوت المذهب الخشبي الذي يريد استعبادي لطائفته وسلالته وتقديس جيناته والدعاء له في كل صلاة من باب التقرب إلى الله، لي مقاييسي الشخصية وطرقي في الذهاب إلى الله متقربا بطريقتي التي تجمع بين المتناقضات من السياسة إلى التصوف، من الخير إلى الشر، وأقرب طريق إلى الله فيما أراه هي طريق سامسونج في كوريا الجنوبية لا مذهب حمالة الحطب والرسي وابن ادريس، الله في عصر العلم ليس خالق الإبل وحدها، بل خالق العقل الذي يجعلك تتخذ قراره بكامل حريتك دون أن تدرك أن هناك من اتخذه لك قبل أن يرتد إليك طرفك.
تنقصني أشياء كثيرة، ومن شدة العمليات العقلية التي تدور في رأسي اللحظة لا أستطيع التفكير بماذا أبدأ، أحتاج مشاهدة صفصوفة ورنوش في حضن رغد التي لم احتضنها بعد منذ مولدها في العام الذي غادرت فيه البلد، البلد الذي غادرته قد غادرته السكينة هو أيضا منذ أن عادت السلالة إلى صنعاء عبر حمير قومنا من أعلى هرم السلطة السياسية إلى أدنى سلم الرتب العسكرية، مرورا بالسياسيين والراقصين ابتهاجا برؤية أول كائن من كائنات الهاشمية السياسية يحاصر صنعاء ملوحا بجنبيته في الهواء، لقد بشرني أحدهم مبتهجا هو وولده بعد سقوط عمران أن جحافل الهمج ستدخل صنعاء من جهة شملان.
ينقصني مشاهدة زملائي المخفيين قسرا في سجون الهاشمية السياسية، ينقصني أيضا رؤية أصدقائي الذين استشهدوا دفاعا عن اليمن منذ انقلابكم المشؤم، أشعر بنقص دم شديد، وأنا أرى كل هذا الدم الذي تسفكون باسم المذهب وخرافة آل البيت وجينات الحسين، الدم اليمني يراق أمام عيني منذ ألف ومائتي عام، وهذا النزيف يجعلني ناقص دم ولحم ومجتمع وشعب وأمة تذبح على خشبات مسارح الهاشمية السياسية اللعينة.
ينقصني رؤية بائعات السمن والحقين والمشاقر في المركزي والباب الكبير وباب اليمن، ينقصني الذهاب إلى قاع اليهود لتناول العصيد مع الدجاج المسلوق، ينقصني المضي بعد الغداء إلى حلويات الصوري في باب البلقة، ينقصني المرور ليلا مع رفاقي الأوغاد الذين أحبهم أمام محلات بيع الأسماك في البليلي، أريد أن أقول لصاحبي الذي تعودت على شراء السمك منه هاه الليلة طري يا عاقل!، سمين ورخيص، عوضنا بدل أمس ومخصوم منك خمسمئة، تمام يا عاقل .. فيرد تمام.
ينقصني برد صنعاء وغبار ذمار ووحشة ليل اب ومشاهدة أسواق الضالع تخلو من المارة من بعد العصر، ينقصني النوم على باصات الرويشان من صنعاء إلى عدن وكل حين أسال السواق وصلنا يا معلم وإلا ارقد يقول أرقد يا عم!! ينقصني التسكع في عصِر بعد العصرية وأحيانا بعد العاشرة ليلاً، ينقصني الخروج مبكراً للدوام المسائي والمرور بسوق الميزان للقات، وصاحب خولان ينادي يا دكتور اليوم لوز لوز ما قد ولا قد دخل صنعاء قات مثل اليوم، فابتسم وأقول له اقرطه لوما أرجع.
ينقصني الذهاب من عصيفرة إلى الجحملية مشيا على الأقدام وتفقد الشوارع بعد المغرب، والحديث بصوت مرتفع عبر تلفوني الذي لا ينتهي شحنه بسرعة، والذهاب لشرب الشاي العدني قرب السائلة وتهديد الأعداء الذين يقتربون من تعز من زغط بجوار بوفية الشيباني، ينقصني سماع تكبيرات المساجد في الضبوعة والسلخانة.
ينقصني لملمة تاريخ هذا البلد الذي حاول امثالك ممن لبسوا سراويل قريش وصاروا حاملي جينات هاشمية بسبب شراء شجرة العالة من محلات غسيل الدماغ المنتشرة تحت قيش الجمهورية التي لم تبني مداميكها عميقا، ولم تتصل بعد بقلب الأرض، ينقصني استعادة كل الآثار التي نهبتموها منذ 1200 سنة في الشمال والغرب وتلتها السرقات في الشرق والجنوب، ينقصني استعادة كتبنا وسمننا وزيتنا ودقيقنا ولحوم خرافنا وديوكنا وعنبنا ورماننا وقمحنا وشعيرنا وسليط جلجلنا الذي في بطونكم، ينقصني استعادة القيم التي ازحتموها من اسلاف حاشد وبكيل ومذحج وحضرموت وكيف حولتم البلد إلى مزار هادوي صوفي لبث شعوذتكم وكهانتكم وضلالكم الذي تجاوز كل عقل ودين ومنطق.
ينقصني الوطن ترابه وأشجاره وأمطاره وطيوره ومواشيه، تنقصني حياة كالحياة وتنقصني دولة يقيمها شعبي على أرضه بدون سلالتكم المعظمة ومذاهبكم ومجازركم ودينكم المزيف، بدون شيعتكم وسنتكم وشافعيتكم وزيديتيكم، ينقصني سماع الأغاني اليمنية بدون الولاية والولي ونسل عدنان المغلف بالمني المقدس، لا أظنك تفهم ولا أظنكم تفهمون، ولا أظن بعضا من بلداء قومنا والساسة المغلفون بالمجاملة والمصالح المتبادلة مع الهاشمية السياسية يريدون أن يفهموا، هذه الأرض لي لأمي لأبي لشعبي من أكلة البعار والجراد والشضوة.
أنا الناقص جدا وجدا لكل ما ذكرت ومالم أذكر أعلاه، وسأكون ناقص وستين ناقص لو تركت لكم الحق في تنغيص حياتنا وحياة أجيالنا مستقبلا.