2018-03-19 الساعة 01:40م
تعلمنا من حديث "جون ستيوارت ميل"، التنويري الأشهر، عن الحرية أن ثمة فرقاً جسيماً بين أن يكتب المرء "الاحتكار جريمة"، وبين أن يلقي الجملة ذاتها على حشد غاضب أمام متجر.
في الأولى يمارس المرء حقه في التعبير.
في الثانية يكون داعية فوضى.
تصفحت ملازم سام الغباري المعنونة باسم "اليمن بلدي أنا"، وليس "اليمن بلدي". وجدتها عنيفة، خالية من المعنى العلمي، ارتجالية، عشوائية، تحرض على السلالة الهاشمية بكل لغة ممكنة، تدعو لقتل الهاشميين بطرق عديدة "فالهاشميون قتلة ولصوص ومتآمرون وأجنبيون ودخلاء وفجار وفرس ومخادعون" إلى آخر تلك اللغة المدمرة.
في ملازمه يستخدم كلمة "الكائنات" ليعني بها الهاشميين. فهم مجرد كائنات دخيلة تستحق الإبعاد والطرد، لأن اليمن "بلده هو". عندما يتخلى عن وصفهم بالمجرمين يفضل منحهم درجة "كائنات"، أو مخلوقات.
سام الغباري شاب يمني مثابر، ليس متخصصاً في شيء بعينه، ولم تهبه الطبيعة حجماً كافياً من الدماغ، ذلك ما يجعله يعبث بالمواضيع الخطرة بدم بارد. وأغلب الظن أنه لا يعرف هذه الحقيقة.
عثرت عليه لأول مرة في واحدة من صحف الدرجة الرابعة في اليمن، قبل أكثر من عشر سنوات. في ذلك الوقت كان متخصصاً في لون شديد الانحطاط من الكتابة: يهاجم مسؤولاً حكومياً في ذمار دفاعاً عن آخر. أتذكر أسماء مثل "سيارة العمري"، وأسماء أخرى كانت تمثل المدى الأبعد الذي اكتشفته كتابة الغباري. وفي مرة كتب عن سيارة مسؤول حكومي في ذمار وفي الأسبوع التالي قال إن تلك السيارة تعرضت للاعتداء من قبل مسلحين يتبعون مسؤولاً آخر يعادي الجمهورية. لماذا يهاجم "مسلحون" سيارة واقفة؟ متعرفش.
أنا أحاول أن أتذكر وحسب، كانت أيام فكاهية ولم يكن للفتى منا آنذاك الكثير من الوقت للضحك. وحده سام الغباري، آنذاك، لم يكن منصرفاً للأشياء المهمة التي سيحتاج إليها فيما بعد.
يعود بعد وقت قصير ويكتب عن ذلك الآخر، الذي سبق أن هاجمه، معتذراً ومبجلاً وغاضباً من المسؤول الأول، الذي كان عبقرياً وعظيماً. ولا ينسى أن يلمز السيارة التي دافع عنها. حقيقي.
يعيش الرجل على أرجوحة، وسيكمل حياته بالطريقة ذاتها. ومن وقت لآخر سيضع قدميه على الأرض ويغير الأرجوحة.
ليس لهذا الحديث علاقة بما قاله عني في ملازمه، بالمرة. وصفني بالنازي، وأكد في كتابه أن"الغفوري ينظر إلى اليمنيين كما ينظر هتلر إلى اليهود". هكذا بهذه الخفة العقلية، وبلا مسؤولية أخلاقية بالمرة. لا يتصل الأمر بي وحسب، بل بطيش الرجل. يلقي الحديث بكيفما اتفق معه، ووفقاً لاتجاه الأرجوحة. ملأ الرجل ملازمه بالعشوائيات، يتحدث عن "عيال لبن الدين وعسل الدين" في ملازمه بأقل قدر من الالتزام العلمي. الغفوري تعلم النازية من ألمانيا، تقول الملازم. هكذا، ألمانيا في ملازم الغباري مجرد شيء نازي، وسيلقي عليك تهمة النازية بدم بارد.
إجمالاً، فملازم الرجل هي تجميع لما كان يكتبه في صفحته. وهي خطرة بالفعل، لأنها كتبت بالطريقة الحوثية في الإشارة إلى الأعداء، وهي توسعة ناجحة لخطاب عبد الملك الحوثي في ربيع ???? عن "المجرمين والسفاحين والعملاء والمستبدين في صنعاء". للخفة نفسها، للامنطق نفسه.
وخطرة لأنها عمومية وعنيفة وخالية من المعنى العلمي، وخطرة لأنها لم تورد أرقاماً ولا دراسات ولا بيانات رغم أهمية الموضوع الذي تورطت فيه. وخطرة لأنها تحرض ضد قطاع من المجتمع بينما "الناس غاضبون ومتجمهرون أمام متجر".
وخطرة لأنها خانت كل فكرة أخلاقية وعلمية عن التأليف، وخطِرة لأنها انتهكت القواعد الأساسية للنشر، وخطرة لأنها انتهاك زاعق للتفكير العلمي فهي تتحدث عن صالح بوصفه الأب الأعظم لليمنيين، وعن الهاشميين بوصفهم غزواً أجنبياً مهمته قتل أهل البلد. إنها تفرق بين مجرمين على أساس إثني، وتعتبر إمداد الحوثيين بالسلاح دهاءاً سياسياً يستحق فاعله لقب "الأب الحنون القريب من شعبه".
خطرة ليس فقط لأنها تصر على المطالبة بطرد اليمنيين الهاشميين من اليمن لأنهم هاشميون، بل لأنها تواظب على القول إن اليمنيين هم "شعب علي عبد الله صالح"، خطرة لأنها مقدمة حمقاء لزمن ما بعد الحرب، ولأنها تفاهة متناهية لا يمكن دحضها علميا.
وخطرة لأن زمنها خطر، وخطِرة لأنها تحاول إخراج اليمنيين من حظيرة رجل إلى حظيرة رجل آخر، وأسوأ ما فيها على الإطلاق: فهي مرافعة فارغة المعنى للدفاع عن صانع اللصوص والقتلة، الصانع الحكيم الذي قتلته صنعته في نهاية المطاف، ولأن كاتب تلك الملازم يبصق، ببرود أسطوري، في الجراح.
هذا ما يمكنني قوله، كرجل يعيش حياته في الكتاب، حول ملازم الغباري. كان بمقدوري تجاهلها، فهناك آلاف من الكتب التافهة، لولا أنها فضلاً عن أنها كتابة تافهة فهي أيضاً قذرة، وهذا ما يجعلها خطرة. تنتمي، بطريقة ما، إلى ما كان يسميه جورج أورويل The new speach.. الكلام العمومي الخطر حول فئة من الناس، بحيث يصبح بمقدور القارئ أن يلحق بتلك الفئة أذى قاتلاً دون أن يحمل ضغينة بعينها ضد أحد بعينه. هم فرس وغزاة ومزيفون ومجوس، وهم يقتلون شعبنا اليمني العظيم منذ الأزل، وهكذا فهم يستحقون الإبعاد. تجسيد بائس لتفاهة الشر، متجاهلة كلياً الأفكار التي أنجزتها البشرية بعد عناء شديد مثل: المواطنة، العدالة، الديموقراطية، العيش المشترك، والتنوع الخلّاق. فهي لا تحيل إلى أي من تلك الدَّوال التي تمثل عناصر استقرار الحضارة الراهنة.
سأقول لكم ما الذي تعلمته من الكتب، من الكاتب الأميركي ديفيد بروكس على سبيل المثال: ثمة طريقتان لحكم الناس، الأولى هي القوة القاهرة، والتي ستعني تطويع كل الناس وإخضاعهم وفرض خيال واحد عليهم. والثانية عن طريق السياسات، إذ سيكون بمقدور السياسات رؤية التنوع والثراء الاجتماعي وستعمل على إدارته وتحويله إلى طاقة.
الطريقة الثانية فقط هي التي بمقدروها أن تخلق بلداناً مستقرة. لا تحيل ملازم الغباري إلى طريقة أفضل تجعل حياة اليمنيين ممكنة، فهناك لعنة نزلت عليهم اسمها الهاشميون، تقول الملازم، أما الطريقة الأفضل لحياتهم فقد أصبحت وراء ظهرهم بموت صالح. خسر اليمنيون، بموت صالح، كل شيء. بقي أمامهم فقط التكفير: اطردوا الهاشميين من "بلدي أنا". هكذا تفكّر الملازم.
اليمن هي أرض لكل اليمنيين، هاشميين وغير هاشميين. انحاز قطاع من هاشميي الجبال إلى المشروع الحوثي لقاء وعدٍ باسترداد مصالحهم التي تراكمت على مر السنين. الأسباب نفسها دفعت صالح ومجموعة من السلالات القبلية "غير الهاشمية" لمساندة المشروع الحوثي، أملاً في استعادة مصالحهم. درجة واحدة من الجريمة الجنائية والسياسية في آن، ولا بد من وضعها في إطارها التاريخي ومحاكمة كل الفاعلين ضمن مشروع للعدالة الانتقالية وتسوية حقوق الضحايا. يعتقد قطاع من الهاشميين، مثل السلفيين واليهود والإنجيليين وطوائف دينية أخرى بلا حصر، أنهم الجماعة الأم، وأن العالم سيستقر على نحو أفضل فيما لو أتيحت لهم فرصة لإدارته. هي فكرة أقرب إلى الميثولوجيا منها إلى الدين. غير أن الجريمة تتجلى في معاونتهم بكل أنواع السلاح والمكر لأجل تحقيق تلك الأحلام الأسطورية، وذلك ما فعله صالح الذي ستصفه الملازم بمؤسس اليمن وأب اليمنيين!
يحتاج اليمن إلى نظام حكم يعتمد على السياسات Politics، تلك القادرة على رعاية تنوعه واستخراج قواه. وأي محاولة لحكم اليمنيين بطريقة أخرى، غير السياسات، فهي جريمة بحق الجمهورية. ذلك ما يجعل جريمة الحوثي ترتقي إلى مستوى الجريمة التي أحدثها صالح. أما العنصر "السماوي" الذي أضافه الحوثيون إلى طبيعتهم الهمجية فلن يجعل جريمتهم مختلفة عن الجريمة السياسية، ثم الجنائية، لحليفهم السابق.
لا تحيل الملازم إلى معنى صافٍ للسياسات، وتفشل في وصف الدولة الصالحة لكل الناس، هناك فقط أعداء ونازيون وقتلة ودخلاء، ولا بد من إبعادهم من "بلدي أنا".
*من صفحة الكاتب على فيسبوك