2022-01-10 الساعة 11:22م
مثّل فوز المنتخب اليمني للناشئين، أخيراً، في بطولة ناشئي غرب آسيا لكرة القدم لهذا الموسم، محطة اختبار حقيقية للضمير والوجدان الوطني الجمعي لليمنيين، خلال هذه المرحلة الحالكة السواد يمنياً، هذا الاختبار الذي وضع الجميع أمام حقيقة أن كل مشاريع التقسيم المذهبي والطائفي والمناطقي، المتنكرة للهوية الوطنية اليمنية الجامعة، لن تصمد في أي مواجهةٍ حقيقيةٍ مع هذا الوجدان الوطني الجمعي لليمنيين.
حالة الفرحة الكبرى التي عمّت كلّ شوارع مدن اليمن وقراه، ومنافي اليمنيين وجبهاتهم، كلها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، تعبر عن هذا الوجدان الوطني الحي الذي لا يعكس فقط حالة فرح عابرة بانتصار فريقهم للناشئين لكرة القدم، بقدر ما يعكس حالة التوق العام للتعبير عن هذا الوجدان الذي يمرّ في أسوأ محطاته الوطنية، بفعل الحرب والتقسيم والتجزئة المفروضة على اليمنيين اليوم، والتي فتح بابها الانقلاب الحوثي على دولتهم وإجماعهم الوطني.
ليست الشعوب مجرّد تجمّع بشري لمجموعة من البشر في جغرافيا من الأرض، ولا يربطهم سوى وجودهم الجغرافي والمكاني فحسب، وإنّما الشعوب هي هوية ووجدان وأحلام وتطلعات جمعية، تشكّل هوية هذه الشعوب والمجتمعات، وترسم أحلامها وتطلعاتها الجمعية للعيش الكريم والحرية والكرامة والنهوض والتقدّم، فالوجدان الوطني هو الرافعة التي تقوم عليها فكرة الهوية الوطنية، فالوجدان الوطني لم يكن فقط نتاج لفكرة الدولة الوطنية، وإنما الوجدان بقدر ما هو نتاج التاريخ المشترك واللغة والأحلام والمصير المشترك، بقدر ما هو حقيقة لا يمكن إغفالها في حالة الحديث عن الهوية والوجدان لأي شعب من الشعوب الحديثة فكيف بالشعوب الضاربة جذورها في أعماق التاريخ البشري، حضارة ووجوداً.
ليس هذا فحسب، في ما يتعلق بالوجدان الوطني اليمني والعربي العام في هذا اللحظة الفارقة، بل تجلّى ما هو أهم وأصدق تعبير عن الوجدان العربي المشترك، لتلك السردية الهوياتية العربية المشتركة، أنّ اليمن هو أصل العرب وموطن أجدادهم الأوائل، هذه السردية التي تشكل هي الأخرى الوجدان العام للإنسان العربي ككل، وهو ما تجلّى ويتجلّى بالفرحة الكبيرة التي شاطرنا بها حتى الأشقاء في السعودية التي خسر فريقها البطولة أمام منتخب اليمن، الجديد على بطولاتٍ كهذه، وفي وضع لا يساعده على فوزٍ كهذا.
يمنياً، ساهم هذا الفوز بحالةٍ من الترميم الوجداني لليمنيين الذين لم يجدوا طوال هذه السنوات منذ الانقلاب في عام 2015 فرصةً للفرح والتعبير عن ذواتهم وتطلعاتهم، إذ دمّرت الحرب كثيراً من هذه الأحلام والتطلعات، تلك الحرب التي شنّتها جماعة من داخل بنية المجتمع، محاولة بهذه الحرب تشكيل سرديةٍ هوياتيةٍ خاصة بها وتفرضها على اليمنيين الذين يرون أنّ هذه الجماعة شيءٌ نشاز بفكرها وسرديتها ورؤيتها المغلقة والضيقة للوطن واليمن واليمنيين على حد سواء.
دأبت كلّ مشاريع ما قبل الدولة، ممثّلة بجماعة الحوثي شمالاً ومشروع الانفصال جنوباً، على مدى السنوات الماضية، على تكريس سردياتها الخاصة للمجتمع وللأزمة والوضع بشكل عام، تلك السردية الطائفية التي تروّجها جماعة الحوثي في تفسير الأزمة، باعتبارها تخوض حرب استكمال لموقعتي صفّين والجمل، لاسترداد حق سليب لهذه الجماعة، مستندة إلى سرديةٍ تاريخية طائفية فاقعة، لا يقبلها الواقع والمنطق والتاريخ أيضاً، تصطدم قطعاً مع الوجدان الوطني الجمعي العام الذي يرتكز على وحدة التطلعات والمصير والتصورات والأحلام الوطنية العامة التي تعبر عن شعب موحد الضمير والوجدان الوطني والتاريخي.
أما مشروع الانفصال، فقد جنّ جنونه من حالة الفرح العام التي عمّت الشوارع والأزقة في عدن والمكلا والحوطة وسقطرى وغيرها من المدن جنوباً وشرقاً، هذا الفرح الذي رفع الصوت عالياً، بـ"الروح بالدم نفديك يا يمن"، و"حيو اليماني حيوه"، هذا الشعار الذي يغسل (ويمحو) كلّ الشعارات الصغيرة التي دأب مشروع الانفصال والتقسيم على تجذيرها والاشتغال عليها، باعتبار الجنوب اليمني أمة وشعباً لا ينتميان لليمن الذي ينتمي له كلّ العرب.
الرياضة كالفن تماماً، تسهم في تجذير قيم الوجدان والهوية الوطنية والعربية والإنسانية المشتركة وترميمها، وتغسل بلاهات السياسة وتفاهات أدعيائها والطارئين عليها، القادمين إليها من غير حقولها ومجالاتها، الذين جاءوا إلى السياسة من بوابة الاشتغال كوظيفة يتقاضون عليها أجراً وراتباً، وكأنّ السياسة مهنةٌ يتقاضى عليها السياسي أجوراً مقابل عمله فيها، وليست السياسة قيماً ومواقف وقضية وطنية يناضل من أجلها السياسي، ويقدّم في سبيلها التضحيات الكبيرة.
.. لقد نجح الوجدان اليمني في هذه اللحظة الحالكة في أن يستعيد ذاته وقسماته في معركةٍ بالغة التعقيد، يختلط فيها الذاتي والموضوعي، كما تختلط فيها كلّ الأوراق، ويلعب فيها اللاعبون الأغراب والأغبياء والمتنطعون والفاشلون والمهرّجون، متجاوزين كلّ ثوابت الأمة والدولة والشعب والوجدان، الذي خبا طويلاً لينفجر بكلّ هذا الحماس والعنفوان في التعبير عن ذات اليمن وهويته وضميره وأحلامه وتطلعاته التي يحاولون خنقها وتجاوزها.
لليمن وجدان وطني وحضاري وتاريخي عميق عمق التاريخ ذاته، وجدان يصعب تجاوزه وتخطّيه، هذا الوجدان الذي يشكل كلّ هذا الامتداد عبر التاريخ اليمني والعربي، بوصفه من ثوابت هذه الجغرافيا والتاريخ الممتد، الوجدان، الذي إن خبا قليلاً أو مرض أو تعثر أهله لا يموت ولا يتلاشى، وإنّما تزيده المحن تعافياً وتجذّراً، هذا الوجدان الذي أفشل كلّ محاولات تطييف الحرب وحرف مسارها الوطني المقدّس، بوصفها حرب استعادة الوطن ودولته وجمهوريته ووحدته السياسية والتاريخية والوجدانية، في مواجهة أقذر الأفكار والمشاريع البدائية الهمجية، مشاريع ما قبل الدولة والوطن والوطنية.
*نقلاً عن "العربي الجديد"