2024-01-28 الساعة 11:17م
تحاول أميركا [وهي دولة تحمكها أقلّية]، مع حلفائها طمس أدلة الجريمة. تأتي الأونروا في مقدمة الملفات التي يجري محوها. الدعاية المناهضة للعدوان الإسرائيلي، كما المرافعات القانونية، تستند إلى حد كبير على ما ترصده الأونروا من جرائم حرب. ولأنها منظمة أممية فإن المهاترات معها تختلف عن الأخذ والرد مع وزارة الصحّة في غزة. إلى أن أحدثت أميركا اختراقاً مريحاً من خلال الادعاء بوجود علاقة تربط الأونروا بالسابع من أكتوبر. المبادرة السريعة إلى إيقاف الدعم عنها، ثم تقافز الغرب الأوروبي إلى الإجراء نفسه، تحت ضجيج قرار محكمة العدل الدولية، يخبرنا عن فصول أخرى في الرواية: شيطنة حامل الدليل.
ضربت المجاعة كل موضع قدم في غزة، الجيش الإسرائيلي حوّل القطاع إلى مكان غير صالح للعيش [معنى آخر للإبادة البشرية، أن تطمس كل على ما يدل على الجماعة البشرية، وأن تجعلها غير قادرة على البقاء في مكانها]. في لحظة القول، من خلال أعلى هيئة قضائية دولية، إن الصورة في غزة قد تنزلق إلى إبادة بشرية، تعلن أميركا وملحقاتها إيقاف الدعم عن منظمة تعمل في رعاية المدارس وتوزيع اللقاحات.
تأسست الأونروا بعد النكبة مباشرة، واسمها يعني "غوث اللاجئين الفلسطينيين". ما بقيت الأونروا على قيد الحياة فإن ذلك من شأنه التذكير بأن هناك فلسطينيين ينتظرون العودة، وأن هناك "فلسطين" تنتظر أوانها. كما لو أنها المقابل الموضوعي للدياسبورا اليهودية، شتات الشعب اليهودي في العالم في انتظار أوان العودة. كان المسيري يبدي تحفظه على تعبير "الدياسبورا/الشتات"، ويقترح مكانه: الانتشار اليهودي. فالشتات يشير دائماً إلى مركز، إلى أرض مفقودة أو موعودة. تحمل الأونروا القدرة الدلالية نفسها: اللاجئون، العودة.
من المثير أن القرار الأميركي العنيف جاء بغطاء حول حل الدولتين، وبعد أيام من قرار لمجلس الأمن تحفظت عليه أميركا يدعو إلى السماح بدخول المساعدات إلى غزة. سبق لأوباما أن أخطأ مرة واحدة وتحدث عن حل الدولتين، استخدم تعبيراً سياسياً واضحاً في معالجته للموضوع. يقول في مذكراته إنه تفاجأ بمستوى الغضب الذي عم أميركا، وكيف أن هاتف البيت الأبيض لم يتوقف لأيام. ثم يؤكد بأنه ما من سياسي أميركي يجرؤ على الحديث عن المسألة الإسرائيلية- الفلسطينية كما يتصورها إلا إذا كان لا يريد أن يُرى في مكانه في الانتخابات القادمة. الآن يتحدث البيت الأبيض عن حل الدولتين بمنتهى الأريحية، وليس لتلك الجرأة الفائقة في الحديث عن دولة فلسطين سوى معنى واحد: خداع لفظي وبصري، لحين ميسرة.
ومما قد يساعدنا على إضاءة هذه المسألة، ربما، هو الاستطلاع الذي قام به بيو سنتر [أبرز مركز قياس رأي في أميركا] حول نسبة اليهود إلى غير اليهود في أميركا. قال الأغلبية إنهم يعتقدون إن 30 في المائة من سكان أميركا من اليهود [في الواقع أقل من 3 في المائة]. ما يعطينا صورة عن الحضور والنفوذ والهيمنة الصهيونية على الحياة العامة في تلك البلاد. وهو حضور يحسه الأميركي الفرد في عادياته، حتى إنه لم يعد قادراً على تفسيره سوى من خلال الاعتقاد بضخامة القوة المهيمنة، لا طول أذرعها وحسب.
* من صفحة الكاتب على منصة إكس