2024-11-16 الساعة 04:39م
في سماء من البؤس اللامتناهي، تلوح أرواح اليمنيين المأسورة كأنها أعلامٌ منسوجة من الصبر ومرصعة بالألم، ترفعُ هاماتها وتصارعُ سجون صنعاء بشجاعةٍ تقطر دماً وحباً للأرض التي تختنق تحت وطأة الحديد والنار. هذا المشهد الذي لا تسكنه الشمس، بل تتوارى فيه وراء عتمة الصمت والضياع، في ظلّ جماعة جاثمة على صدر الحياة، تتغذى على الأرواح وتبتلعُ ما تبقى من أحلامٍ محطمة، وقلوبٍ تنبض للحرية التي تلوح كسرابٍ بعيد.
سحر الخولاني تقف في وسط هذه العتمة، كزهرةٍ وُلدت لتزهر لكنها وجدت نفسها محاصرة بأشواك الطغيان. صرختها الأخيرة كانت صرخة كل حرٍّ في اليمن. صرخةٌ تطالبُ بكل حب وجرأة، بمساحةٍ من الضوء، و حياةٍ تتنفس فيها الحقيقة. خلف جدران سجون صنعاء، تحاكي قضبان الحديد معاناة الإعلاميين والنشطاء، وتغلق الأبواب على عقولٍ حاولت أن تطلق الكلمة لتغدو حرّة، لا تعرف الهوان، تسير في ظلال الحروف، تهدي الأرض أغنياتها وتفضح الظلم.
تحت نفس الظلال القاتمة، يقف محمد المياحي، وقد غاب عن العالم بصرخة صامتة، كأن الحبر الذي كتبه صار جزءًا من الليل ذاته. وإذا ما عدنا إلى الذاكرة المثقلة، نجد أن الشاعر أمجد مرعي، لم يكن احتفاله بثورة الخلاص في ٢٦ سبتمبر المجيد إلا نفحة أمل دفنتها الجماعة بين جدران الاعتقال، تمامًا كما دفنت كل صرخة حرة صادقة.
وفي صدى الصمت هذا، يتسلل إلينا تقرير حقوقي يفضح حملة قمعية، واسعة الأرجاء، لا تستثني أحدًا؛ إذ انطلق الجلادون من أبريل حتى يونيو من هذا العام، في تصعيد مريب لقمع النشطاء والإغاثيين، مبررين تهمهم بتُرّهات التجسس والتخابر، وكأن كل قلبٍ ينبض بالخدمة صار خائنًا. مئات الرجال والنساء، منهم موظفو وكالات الإغاثة، الأمم المتحدة، بل وحتى البعثات الدبلوماسية، جميعهم وقعوا في قبضة لا تعرف الرحمة.
إن الجماعة الحوثية، وقد تفننت في إذلال الأبرياء، لم تكتفِ باعتقالهم، بل عرضت بعضهم أمام شاشاتٍ تشبه محاكم التفتيش المظلمة، ليجبروا على اعترافاتٍ تشبه مراسم إعدام أرواحهم أمام الناس. كل هذا جرى وسط صمتٍ كاد يبتلع الحقائق، بينما تذوي النفوس، وتسقط أعدادٌ متزايدة من المعتقلين كأوراقٍ في خريفٍ لا أمل فيه.
في تقارير دولية أخرى، تتوالى الأرقام: منذ سبتمبر 2014 حتى اليوم، وصل عدد المختطفين المدنيين في سجون الإرهاب الحوثي إلى أكثر من 16,800 مدني، منهم 4201 لا يزالون خلف القضبان، مختطفين بلا وجهة، وأحيانًا بلا قضية سوى أنهم أحلامٌ لا تُطاق للجلادين. أما الأسماء التي تم تسجيلها، فبينهم 389 سياسيًا، 464 ناشطًا، 340 إعلاميًا، 176 طفلًا، 374 امرأة، و342 تربويًا؛ هم جميعًا شهودٌ على عصرٍ يسقط فيه الحق، وتتسع فيه مساحات العتمة.
لم يعد الليل في صنعاء كافيًا ليغطي على هذه المشاهد البشعة؛ تقارير مجلس الأمن، وتوثيقات منظمات حقوقية مثل الشبكة اليمنية للحقوق والحريات، توضح بأدق التفاصيل كيف تستمر الاعتقالات والاختطافات على يد ميليشيا الحوثي، وتظهر أن أكثر من 147 حالة تصفية و282 وفاة جرت بسبب الإهمال في السجون. وقد أوردت هذه التقارير أيضًا أن 92 معتقلًا توفوا بعد حرمانهم من العلاج، بينما أصيب 52 معتقلًا آخرين بالفشل الكلوي أو الشلل، كل ذلك يُرتكب في ظلامٍ دامس من تجاهل دولي وصمتٍ مخزي.
وأما القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان، فلا وجود لهما في هذه الزنازين التي تستنشق رائحة الخيانة وتزفر حياة أبرياء قد أصيبوا بأوجاع لا يراها أحد. أصواتهم تمزق الأثير بلا مستمع، وشهاداتهم تغرق في صمتٍ يتجسد كعار على الإنسانية.
وفي داخل هذه الظلال الباهتة، يقف المجتمع الدولي، كأنه يشاهد فيلماً، بينما تجتاح البلاد أمواجٌ من الألم، دون أن يجرؤ أحد على مدّ يدٍ واحدةٍ لنجدتهم. صرخة رئيس الأركان اليمني، الفريق صغير بن عزيز، تلاحق هذا الصمت، متحدثًا عن تعذيب العشرات حتى الموت، وعن أطفال يزج بهم في معارك ليست لهم، محذرًا من الاستمرار في تجاهل هذه الجرائم. وتأتي دعوته كجرس إنذارٍ للعالم، مؤكدًا أن تجاهل هذه الوقائع سوف يُسهم في إغراق البلاد في ظلامٍ لا نهاية له.
إنّ الصمت على هذا الوضع يماثل موافقةً على الظلم؛ إنه تحريض على الاستمرار في سحق الحق. هذه الأرض التي شربت من دماء أبنائها لن تغفر لمن صمت، ولن تغفر للذين تجاهلوا صرخات المختطفين والمغيبين قسراً.
.. والله المستعان
*(المصدر أونلاين)