2015-04-21 الساعة 02:12ص
في خريف 2013 عقد أوباما العزم على مهاجمة الآلة العسكرية للنظام السوري. ومن بين كل التعليقات التي سمعها أوباما كانت كلمات توماس فريدمان هي الأخطر. فقد نصحه عبر صحيفة النيويورك تايمز قائلاً إن المجتمع العربي هو مجتمع متعدّد القطاعات على أساس سلالي/ إثني وعقائدي، وأن كل قطاع يؤمن بمبدئ أحادي: إما أن نحكم أو نموت. وأن تلك العقيدة السياسية ليست حديثة فهي تعود إلى القرن السابع الميلادي. مع هذه الفكرة تداعى فريدمان وقال إن للديكتاتور في المجتمعات العربية وظيفة واحدة وكانت أساسية. إذ حال على مر الأيام دون أن يعتدي قطاع من المجتمع على آخر. وأن سقوط الديكتاتور، الأسد مثالاً، سيجعل فرصة نشوب حرب أهلية بين كل القطاعات، الكل ضد الكل، أمراً وارداً.
ولا تبدو تلك الصورة ممكنة في النموذج اليمني، أعني حرب الجميع ضد الجميع. يعود الأمر، ربما، إلى أن اليمن ليست ذات جيوب إثنية واسعة، وقد سبق أن غفر اليمنيّون للهاشمية السياسية عشرات المرّات في التاريخ. وكانت تعود لترتكب الخطيئة ذاتها، وهذه المرّة عبر الدبابات الحوثية. فضلاً عن خبرة وافرة من المشاركة السياسية والخطاب الوطني المسؤول والحديث الذي صنعته النخب الوطنية بكل تنويعاتها منذ زمن.
نظام بشار الأسد هو نظام الحوثي. يعتقد النظامان أن الحكم "حق" وأنه حصري. تذهب فلسفة الحكم لدى النظامين، والأنظمة التي تقوم على أسس فلسفية مشابهة، إلى امتلاكهما لما هو أبعد من الحق في الحكم، إلى الحق في تطويع الآخرين بكل السبل وتحويلهم إلى كيانات بلا إرادة خاصة ولا خيال مستقل.
تجري عملية التطويع أولاً عبر اللغة الشمولية، تلك التي تتغلغل إلى الوجدان الفردي والجماعي محوّلة الفرد إلى ترس في آلة شاملة، كما دوّن إمرَه كريتس، الكاتب الهنغاري الأشهر وأحد الذين ألقتهم النازية في المعتقلات الجماعية Konzentrationslager. وبموازاة تلك اللغة الشمولية، التي ستمثل الجزء الناعم من الديكتاتورية، يجري ضخ جرعات من العنف والخوف.
تصبح الصورة الكلية كالتالي: عندما تقرّر الجماهير حمل السلاح وخوض معركة ضد النظام الشمولي يُقتل من تلك الجماهير 100 ألف في العام الواحد، كما في حالة سوريا. وعندما يتململ المجتمع وحسب يُقتل منه 7 آلاف في العام كما في الحوثية، اليمن. وستكون الحياة نظير التسليم الكامل بسلطة من نوع خاص، سلطة لا تسمح بنشوء حرية الفرد، ولا تخلق فرصة لتفجير طاقاته الإبداعية. وهي صورة شبيهة بالإعدام الكلّي للكائن البشري. فقد لاحظتُ أن الذين دخلوا من صعدة وعمران إلى صنعاء مع الحوثي وقدّموا كصناع رأي ومثقفين كانوا لا يجيدون الإملاء. وبدا لي، ككاتب، أننا بإزاء نظام جديد لن يحول فقط دون تفجير طاقة الفرد وخياله بل يفعل ما هو أكثر بشاعة. إنه يحول دون تطوّر قدراته الإملائية.
ويصبح لدى ذلك النوع من الأنظمة الفاشية مجتمعات على هيئة معسكرات اعتقال جماعية. تتمثل مهمّة النظام في الأساس في إحداث التطويع الإجباري. بينما يجد الفرد نفسه أمام خيارين: إما أن يقبل برؤية النظام، وفلسفته، أو أن يجُبَر على ذلك! كما دوّن كريتس. وكانت حنّا آرندت، الفيلسوفة لألمانية الشهيرة، قد توصلت إلى المصادر العميقة للعنف ولاحظت أن الإيديولوجيات الشمولية لا تكتفي بالهيمنة على السلطة بل تزحف إلى المجتمع. وأن العنف، وهو وسيلتها، يقضي على السياسة كلياً ويمنع ظهورها.
كان الحوثيون قد تخلّصوا، بالفعل، من السياسة. وجاء خطاب زعيمهم أكثر من مرّة ليؤكد هذه الحقيقة معلناً استعداده للتعامل مع التشكيلات السياسية المحلّية التي ستقبل بهيمنته الشاملة. أي أن تصبح السياسة بلا سياسة، وأن تزاح من المركز إلى الإطار، وتغدو السياسة مجرّد حلية فنّية موجودة على الأطراف. وفي المركز تعمل الإيديولوجيا الحوثية الفاشية على تطويع التاريخ والمستقبل، وعلى نسف كل الممكنات الفردية للكائن محيلة إياه إلى مخلوق بلا عمق ولا تاريخ. وسيكون على هذا المخلوق المطموس أن ينجز مهمة واحدة يحددها له النظام، وسيصرخ بها على الدوام، وبلا ذاكرة.
في رواياته أيضاً عاد إمره كريتس إلى سنواته الأولى وتذكر هنغاريا. تذكر كيف ألغت الفاشية الفرد وقضت على وجوده عبر خطابها الشامل والإنتاج المستدام للخوف والعنف.
قدّم بشار الأسد نفسه كحاكم علماني. وعندما اختبِرت علمانيته أمام المسألة الديموقراطية، وهي جزء أصيل من التفكير العلماني المعاصر، احتفظ بسلطته كبابا. وفضلاً عن وظيفته الأساسية في منع هجوم قطاع من المجتمع على آخر، كما توقع فريدمان، فقد احتكر نظام الأسد الحقائق كلها، وفي مقدمتها الحق في إلغاء الفرد وتحويله إلى آلة بلا عمق، أي في تشييئه. وقد لاحظتُ هذا الأمر في المناطق التي خضعت لسيطرة الحوثيين لفترة طويلة، كما في صعدة وعمران. وكانت التقارير الصحفية المحلّية تسمي تلك الظاهرة الوحشية، أعني الاستسلام الشامل لرؤية الحوثي للحياة، بالأمن المستتب. وكان الفرد في مملكة الحوثي لا يخشى على دكّانه، ربما، لكنه أيضاً لم يعد قادراً لا على التفكير الحُر ولا على الكلام. وأصبحت مأساته ـ إذا استخدمنا كلمات كريتس ـ غير قابلة لأن تروى.
جاء الحوثي، مثل كثير من الإيديولوجيات، من التاريخ. وطلب من الفرد العادي نسيان المستقبل، ومن الأمّة إجمالاً أن تترك له أمر تدبّر شأنها. ولم يكن ذلك بالمزاح، فقد خاض عشرات الحروب الصغيرة وفي كل الاتجاهات في سبيل التاج. استعان الحوثي باللصوص والنظام المتقهقر وخلق مزيجاً مخيفاً من القوة تمثّل الإيديولوجيا رأس حربته وفي أحشائه كتلة هائلة من الأعضاء النشطة التي لا علاقة لها بالإيديولوجيا. وذلك كان موزاييك المصالح والنفوذ والسلطة وبارونات الأموال المحرّمة. جرت تسوية تاريخية تسمح لكل ذلك الموزاييك المتناقض من الفساد والجريمة في أن يستمر في المستقبل تحت نظر السيد الجديد. وليست تلك بالحيلة الجديدة فقد فعل الأئمة، أجداد الحوثي، الأمر ذاته. وبدلاً عن نشر الشرطة في أرجاء الوطن فقد نشر الأئمة اللصوص، وكان اللص الكبير يقدم ولاءً كافياً للإمام مقابل سلطته الخاصة على ما تحته من الأرض والبشر. كان اليمن تحت حكم الأئمة عبارة عن جزر كبيرة من القهر والاستلاب ورابطة عملاقة من اللصوص يجلس الإمام على رأسها. وقال الإئمة إن ذلك كان هو شرع الله.
نصيحة توماس فريدمان لأوباما قالت إن الصحيح، إذا كان ممكناً، هو تدمير قوة الأسد العسكرية ونزول قوة دولية على الأرض تستلم وظيفة الديكتاتور الوحيدة، أي منع اعتداء قطاع على آخر. ثم تعمل تلك القوة على تفعيل دالة سياسية ناظمة وتشرف على نشوئها لزمن ريثما تصبح الديموقراطية الوليدة قادرة على فرض سلطانها المحايد. أما الاكتفاء بتدمير القوة العسكرية من الجو والبحر فسيخلق مجتمعاً مفكّكاً وأرضاً مدمّرة،أبوكاليبس. وتلك بيئة لنشوء كل الأخطار.
تبدو الصورة في اليمن أقل درجة من كارثيتها في سوريا. فالحوثيون، الشمولية الجديدة، حكمت اليمن لنصف عام. حدث ذلك بعد أن كان المجتمع قد وصل، بالفعل، إلى مستوى عالٍ من النضج السياسي وتشكّلت نخبه المستقلّة، الإبداعية والسياسية. وعلى المدى الطويل والبعيد كان الحوثيون ليشكلوا خطراً عميقاً، أي على المستقبل وعلى الأجيال القادمة. ولا تبدو فكرة نزول قوات خارجية على الأرض بغرض البقاء أمراً جيّداً. عندما يعلن الحوثي الاستسلام التام ويلقي القبض على أمير الحرب الأشهر علي عبد الله صالح سيصبح الحوار الداخلي ممكناً عملياً.
وحالياً سيمثل إيقاف الحرب ضد الفاشية والعصابات عند هذه اللحظة نصراً كبيراً لذلك النظام الهجين. سيخرج من مخابئه وخنادقه وينتشر في المدن من جديد ويعزف نشيده ويرفع رايته وسيستكمل الحرب على طريقته. فهو يتملك آلة عسكرية لا تصلح لمواجهة الجيوش بل للاستخدام ضد من لا يملكون السلاح. أما مخازن الذخيرة التي استهدفها الطيران حتى الآن فجزء كبير منها هي مخازن للبيع، وسلاح للأسواق الخارجية. ومنذ زمن يعمل صالح أيضاً كتاجر سلاح كبير، وثمّة تقارير دولية أشارت إلى هذا الأمر من قبل، ومن ذلك اعتراض سفينة كورية تحمل صواريخ في أعالي البحر قبل أعوام. وكانت تخص صالح.
وفي الحرب الراهنة، المقاومة المدعومة من عاصفة الحزم، أثبت الجيش الذي أعدّه صالح أنه غير صالح لخوض حرب ضد الجيوش بل ضد الذين لا يملكون السلاح، أو يملكون السلاح الخفيف. وهذه فضيحة تاريخية ستلحق العار بسمعة الجيش اليمني لزمن طويل. كان ذلك الجيش قد سقط أخلاقياً منذ التأسيس، منذ الثورة الأولى. فقد اشترط قائد الجيش، السلال، أن يصبح حاكماً مقابل اشتراكه في الإطاحة بالإمام الحاكم. وصار الجيش حاكماً، وأنتج هذا اليمن الراهن. اليمن المفكك والمريض والتائه هو المنتج النهائي للطليعة الأولى من العسكريين اليمنيين، وكان آخرهم المشير علي عبد الله صالح.
وفي ربيع العام 2010 أعلن الجيش اليمني إيقاف الحرب في صعدة، وهي تلك الحرب التي لم تنجز ميدانياً شيئاً يذكر. ومنذ تلك اللحظة، إيقاف الحرب، انطلقت حروب الحوثي إلى خارج صعدة. وبعد خمسة أعوام صار لميليشيات الحوثي دولة، ولم تعد ميليشيا وحسب. فقد صارت سلطة فاشية واسعة النطاق. يراهن الحوثي، راهناً، على أن يلجأ التحالف إلى إيقاف الحرب وأن تحدث مصادفة سعيدة تدفع لذلك. وخلال أيام، يراهن الحوثي وصالح، سيعيدون انتشارهم من جديد ويسيطرون على المشهد عبر شبكتين معقّدتين من المصالح والعقائد. وذلك أمر سيقضي على ما بقي لدي اليمنيّ الاعتيادي من أمل في نشوء دولة حديثة في المستقبل، دولة تكون لكل الناس وينشأ سلطانها من الناس.