2015-06-01 الساعة 04:30ص
وكأن اليمن باتت ساحة كسر عظم بين أطراف إقليمية ودولية، خاصة بين السعودية وأميركا، فكلتا الدولتين تبتسمان في وجه بعضهما ومن تحت الطاولة تتشابك الأرجل حد النُذر بالويلات.
لا يمكن للسعودية أن تفرط في أهم جار لها، فانهياره يشكل أكبر خطر على أمنها القومي، ولا يمكن لأميركا أن تفرط في أهم شريك لها الآن في المنطقة وهو إيران، وذراعها الشيعية في اليمن المتمثلة في الجماعة الحوثية، التي تعد أهم ركيزة تبني عليها أميركا إستراتيجيتها في تشييع الجزيرة العربية، وخلخلتها في مرحلة ما بعد الاكتفاء الذاتي من النفط، وتوفر بدائل الطاقة.
الحوثي، وهو المقاول هنا، سيتولى تصفية تنظيم القاعدة والأحزاب الإسلامية المعتدلة، وفقا لاتفاق سري مع أميركا مقابل توليه الحكم، ومنح اليمن صبغة شيعية تحمل فكرا ومعتقدا يرى ضرورة قتال السنة المخالفين قبل اليهود والنصارى، وأميركا ترى أن هذه إستراتيجية يجب أن تخرج من مخاضاتها مهما بدت جارحة أو مؤلمة.
التحرك السعودي
ووسط انتظار تباشير النصر الحوثي في اليمن، خرجت السعودية عن صمتها وقررت قيادة تحالف عسكري وسياسي من عشر دول، ونفذت ضربات عسكرية موجعة ضد مليشيات صالح والحوثيين، وذهبت بثقلها السياسي والاقتصادي إلى مجلس الأمن وانتزعت القرار الأممي 2216، وهو ما جعل وجه أميركا يصفر من الذهول.
فالسعودية تصرفت خارج إرادة أميركا، ودون إذن أو موافقة مسبقة، وقادت تحركا هو الأول من نوعه في تاريخ العرب المعاصر، وفي حال تمكن التحالف من تحقيق النصر المبين ستكون له تبعاته في المستقبل القريب والبعيد، وهذا يعني أن العقد سينفرط من بين يدي أميركا، وستبدأ بقية دول الشرق تحديد خيارات مستقبلها، والبحث عن أمنها ومصالحها بعيدا عن موافقة واشنطن.
رى أميركا أن التحرك السعودي القوي والمفاجئ والمتصلب بقراراته، لا بد أن يُكسر، وأن تفضي الحرب إلى لا نتيجة، حتى تقول للأقوياء الجدد: أنتم ضعفاء من دوننا، وتسعى إلى إفراغ القرار الأممي من مضمونه حتى تقول للحلفاء الجدد: لا تستطيعون تحقيق أي مكسب سياسي دون إرادتنا.
وأولى خطوات هذا التوجه هو الضغط على القيادة اليمنية للتوجه نحو جنيف والتفاوض مع الحوثيين وصالح قبل تنفيذ أي من بنود القرار الأممي، وهو ما رفضته الرئاسة اليمنية في 23مايو/آيار الجاري، فقد رحبت بالدعوة لمؤتمر جنيف بشرط أن يسبق الذهاب تنفيذ أربع خطوات إجرائية تضمنها القرار الأممي، وهي: الانسحاب الفوري لمليشيات صالح والحوثيين من جميع المدن اليمنية وفي مقدمتها العاصمة وعدن وتعز، وتسليم كامل أسلحة ومعدات الدولة المنهوبة، ومغادرة المؤسسات الحكومية التي تحت سيطرتهم، والإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين.
ثم إن القرار الأممي أشار بالنص إلى عقد مؤتمر حوار يمني في الرياض ولم يتحدث عن جنيف.
بحسب مصادر سياسية عديدة تحدثتُ إليها فثمة رؤية أميركية بدأت تشق طريقها نحو الرئاسة اليمنية مفادها أنتم رئاسة وحكومة جهتان شرعيتان لا خلاف عليهما، وصالح والحوثي جماعتان متمردتان لا خلاف حولهما، إذا لماذا لا تذهبون إلى جنيف للتحاور كأي طرف شرعي يتفاوض مع جماعة متمردة تسيطر على الأرض، فالذهاب لن ينقصكم ولن يزيدهم.
وبحسب سفير أوروبي رفيع، فلدى الأميركيين تصور أن ذهاب الحوثي إلى جنيف يعد اعترافا بالقرار، مع أن القرار تحدث عن إجراءات عملية ميدانية، وهو ما تطالب به الرئاسة والحكومة اليمنيتين.
وهذه الرؤية الأميركية الباطنية خبيثة، فهي على أقل تقدير تفرغ القرار الأممي من مضمونه و"تشرعن" للانقلاب، وستفضي إلى أزمة من ثلاثة أوجه: نخبة سياسية تتفاوض في جنيف، وحكومة تعيش في المنفى، والأرض والواقع لصالح والحوثيين تحديدا، كل يوم يحققون هدفا ويصنعون تقدما.
إجماع على رأس صالح
قبل الذهاب إلى الرياض أو التفكير في جنيف، هناك إجماع إقليمي وعربي على ضرورة التخلص من صالح، والبحث عن بدائل قيادية لحزبه الكبير، الذي يشيخ كل يوم وتتناقص قوته بشكل مريع لحساب بناء قوة الحوثي، حيث بات الحوثي يبتلع كل يوم قوة صالح السياسية والعسكرية، ويشتري ولاءات كبار ضباط الحرس الجمهوري، ويبتعث بعضهم إلى بيروت وطهران، وبالتالي لا تفكر أميركا ولا يهمها زوال صالح وحزبه، بقدر ما يهمها بقاء الحوثيين.
وسيسعى مؤتمر جنيف لمنح الحوثيين أكبر قوة ممكنة تمكنهم من البقاء والاستمرار كقوة عسكرية وسياسية مؤثرة في صنع مستقبل اليمن، في حين ترى السعودية أن بقاء أسلحة الحوثي يعني أن جهنم أخرى ستنشأ على حدودها وستخوض معها حرب استنزاف طويلة، وهو ما سيعقد المعركة، ويزيد القلق بشأن مستقبلها.
لدى قوى الإقليم قناعة بأن صالح انتهى سياسيا، وتحالفه مع الحوثيين كان لتوصيل رسالة لعواصم الخليج بأنه القوي ومفتاح الحل، وبالتالي يمكنها رفع العقوبات الأممية عنه، وضمان مستقبل سياسي لولده أحمد، مقابل وعد منه بتخليص الخليج من شرور الجماعة الحوثية، غير أن الاشتباكات المسلحة العنيفة التي جرت بين الحوثيين ومعسكر القوات الخاصة الموالي لصالح في 24 فبراير/شباط الماضي فضحت قدرات صالح، وأسهمت في إقناع الخليجيين بأن صالح يتراجع عسكريا كل يوم، وأن رجاله وسلاحه يذهبون إلى يد إيران والجماعة الحوثية، ولا بد من تدخل جراحي مهما بدا مؤلما.
أوجاع السعودية
تشعر القيادة السعودية بأوجاع كثيرة تأتيها من اليمن، ليس مصدرها صالح والحوثيين وحدهما، بل والقيادة السياسية والأحزاب والمقاومة الشعبية.
وحتى هذه اللحظة لا تزال الأحزاب السياسية مائعة المواقف، ولا يوجد غير حزب الإصلاح الذي أصدر بيانا أكد فيه تأييده عاصفة الحزم، في وقت تنتظر فيه القيادة السعودية تحركا سياسيا يمنيا مساندا لقوات التحالف.
وتنتظر القيادة السعودية من الرئاسة والحكومة اليمنيتين مواقف أكثر صرامة، من قبيل إزاحة المحسوبين على الحوثي أو المداهنين له من الوظائف العليا، وفي مقدمتهم علي الأعوش النائب العام، وإعادة وزير الخارجية عبد الله الصايدي إلى موقعه، بدلا من القائم بأعماله وزير الصحة رياض ياسين.
وتنتظر أيضا تحركا شعبيا مقاوما يحسم المعركة على الأرض، بعد أن وفرت قوات التحالف دعما لوجستيا، وقطعت الإمدادات قدر ما أمكنها، وأمدتهم بالسلاح وبقي التحرك الشعبي المقاوم الذي يجب أن يحسم المعركة، فلا يزال في حدوده الدنيا، ولو أن الأحزاب دفعت منتسبيها ومناصريها، وعمل الإعلام المحلي على بث روح المقاومة ودفع رجال القبائل بمقاتليهم لأمكنهم الحسم خلال أسابيع.
انتظارات السعودية لن تطول، ويجب على القوى اليمنية الحية والفاعلة أن تبحث عن حلول أكثر جدية ونفعية، حتى لا تجد نفسها يوما تقف محسورة وملومة من الجميع، وفي الوقت نفسه تقف السعودية أمام مفترق طرق: إما أن تحافظ على اليمن في سياقها العربي، وبوصفها جزءا من نسيج الجزيرة العربية، وإما أن تتركها مرتعا لإيران تُحضّر فيه عدتها وعتادها لالتهام الخليج، وتحديدا السعودية.
* الجزيرة نت