2015-06-29 الساعة 01:24ص
باعتقادي أن الخطابين القائلين بأن داعش إما صناعة مخابراتية أو القائل إن داعش حركة جهادية، كلاهما لا يقدمان توصيفًا دقيقًا وموضوعيًا لحقيقة هذه الجماعة التي أُطْلِقُ عليها هنا الجيل الثالث من الإسلاموية الجهادية، وآخر نسخها، التي تشكلت فيما بعد ثورات الربيع العربي السلمية؛ كنتاج طبيعي لانكسار حلم الشعوب العربية بالحرية والكرامة والتغيير المنشود.
وقبل الدخول في هذه الجدلية، باعتقادي أن نظرية السبب الواحد في شرح ظاهرة ما هنا أو هناك في علم الاجتماع قد ماتت وانتهت، وأن الحديث عن تعدد العوامل والأسباب وتضافرها وحدها ما يمكن التعويل عليه في مقاربة ظاهرة كظاهرة “داعش” التي حتى في اسمها غريبة عن نسق المنطقة الثقافي في التسميات.
فمما لا شك فيه، أن ثمة عوامل عدة موضوعية وذاتية وداخلية وخارجية كلها تضافرت في تشكيل هذه الظاهرة العنفية، التي بدأت تجتاح المنطقة العربية في هذه الأيام.
لكن، يبقى القول بأنها مجرد ظاهرة عنفية مجردة عن سياقاتها الأخرى ليس من الصواب بحال؛ بالنظر إلى بيئتها ومحيطها وتعقيداتها المختلفة سياسيًا وعسكريًا وإثنيًا وطائفيًا وغير ذلك من الأسباب التي لا يمكن بحال من الأحوال عزلها عنها.
في البدء، ندرك جيدًا ماذا حل بالعراق عقب الغزو الأمريكي في 2003م، ذلك الغزو الذي أذاق العراقيين الأمرين، وقسم العراق طائفيًا بشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ العراق؛ مؤسسًا لهذه المرحلة العصيبة في تاريخ ليس العراق فحسب بل المنطقة العربية كلها.
أكثر من مليون عراقي سقط ظلمًا وجورًا على أرضه قتلى، وملايين مشردون بفعل هذا الاحتلال ومخلفاته في العراق من طائفية لم يسبق للعراقيين أن عاشوا ويلاتها كهذه المرحلة الممتدة منذ الغزو الأمريكي حتى اللحظة.
بعد ذلك، كانت المنطقة على موعد مع الربيع العربي، وثورته السلمية المدنية التي أبهرت العالم؛ تلك اللحظة التي أربكت دهاقنة صناعة السياسة في العالم وجعلتهم يقفون مكتوفي الأيدي حيالها، لكنهم ظلوا يرقبونها بصمت ويخططون للالتفاف عليها كما هو حاصل الآن.
أدرك الغرب وحلفاؤه في المنطقة من المتوجسين من إرادة التحرر المشتعلة عربيًا، والتي أسهمت في إسقاط عدد من أزلامهم هنا، وبالتالي بالنسبة لهم لم يكن ثمة مخرج لإيقاف هذه الثورة العربية الكبرى إلا من خلال الاشتغال على تناقضات المشهد العربي الداخلي؛ فكانت أهم أوراق هذه التناقضات هي الخارطة المذهبية والطائفية، عدا عن الموروث الفقهي الذي يشكل خميرة للعنف يتم الدفع بها إلى الواجهة كلما حان طلبها.
عمومًا، من بين كل هذه العوامل، التي جزء منها يعود بدرجة رئيسة للعنف والقمع الذي مورس على الثوار السلميين في سوريا والعراق، وارتداء هذا القمع والظلم والاستبداد لبوس طائفية واضحة من حكومة المالك والعبادي في بغداد والأسد بدمشق، وخلفهم المرشد الأعلى للعنف الطائفي على خامنئي، عدا عن معارك قاسم سليماني في العراق والشام بالغطاء الأمريكي الغربي والتمويل الخليجي الواضح؛ كل هذا يزيد من متانة الطرح الذي يقدمه تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، داعش مخابراتيًا؛ وهو أنهم يواجهون العالم كله ويجب أن يكونوا عند مستوى هذا التحدي، الذي يغذيه فقر سياسي وفقهي كبير لدى هذه الجماعة، وامتداداتها.
لكن، يبقى العامل الأكبر والأكثر تأثيرًا في الإعلاء من أطروحات العنف هو الكارثة المدوية التي أوقفت عجلة التحول الديمقراطي في الحالة المصرية بالانقلاب العسكري الذي أطاح بأول تجربة ديمقراطية وليدة في المنطقة العربية، والتي كان الإسلاميون أهم ملامحها، وهم الإسلاميون المعتدلون الذين يشتغلون على مقولة الديمقراطية والنضال المدني السلمي؛ مما يعني لخصومهم أو منافسيهم في المجال الإسلامي، وهم الجهاديون، أن مصير تجربتهم الديمقراطية يثبت فشل هذا التوجه، وضحالة مثل هذا الطرح؛ مما يعني أن أطروحات الجهاديين هي الأنسب في التعاطي مع هذا الواقع المتشكل.
التوجه الغربي، والخليجي تمويلًا، لإيقاف عجلة التحولات الديمقراطية السلمية في بلدان الربيع العربي كان من أهم العوامل المساعدة التي هيأت المناخ المناسب لإعادة الاعتبار للفكرة الجهادية بعد أن كادت أن تختفي وتتوارى من المشهد أمام بريق ثورة الربيع العربي السلمية وإرادة شبابها المدنية الحضارية السلمية.
وهذا ما يفسره خطاب أحد الشباب السودانيين من الذين تم اعتقالهم بتهمة التحريض على الغرب والأمريكان، وهو الدكتور محمد علي الجزولي، بقوله في رسالة له عقب إطلاق سراحه من المعتقل: “إن الحركة الجهادية العالمية هي البديل الشرعي والموضوعي لاغتيال ربيعنا السلمي ودهسه تحت أقدام الدولة العميقة؛ فعلى الذين اغتالوا تطلعات نحو حياة كريمة أن تتسع صدورهم لخيارات الأمة الأخرى”. وباعتقادي، هذا أحد الأصوات التي يجب ألا تغفل في تفسير تبلور ظاهرة العنف وتوسعها بهذا الشكل.
لكن، لا يخفى على المراقب جيدًا لحيثيات المشهد الذي تشتغل فيه هذه الجماعات حجم الاختراقات، أو لنقل التوظيف الذي يتم لما تقوم به على الأرض من عنف لا أفق له ولا من حدود سياسية يرجى رسمها من جراء هذا العنف؛ مما يسهل لتوظيف هذا العنف من قبل خصومهم بشكل سيئ خدمة لمصالح إقليمية ودولية للقوى الكبرى التي ترى أنها تحقق بمثل هذا العنف جزءًا كبيرًا من مصالحها دون أن تتورط هي بطريقة مباشرة.
عوامل عدة تتداخل بعضها ببعض هي التي ساهمت برسم هذه الصورة التراجيدية للعنف في منطقتنا. لكن، يبقى عامل غياب مشروع الدولة الحقيقية في العالم العربي، والعمل على تغييبه، سيؤدي حتمًا إلى خلق حالات أكثر عنفًا مما هي قائمة اليوم؛ بالنظر إلى أن الغرب ومصالحه هو جزء من منظومة المنطقة العربية وإن لم تتم مساعدة هذه الشعوب على ترتيب ذاتها فلا مصالح باقية.