2015-07-26 الساعة 12:06ص
في البداية كانت روايات الضباط الذين خاضوا حرباً ضد عصابات الحوثي في الأعوام العشرة الماضية. قالوا إن المقاتل الحوثي يبدو غير مستشعر للمخاطر ولا للآلام، كما لو أنه ليس لديه أي فكرة عن الموت. اختلطت تلك الروايات الميدانية المحايدة بالتوظيف السياسي، ثم أصبحت مع مرور الأيام مادة مثيرة للريبة، وقد تلحق بصاحبها الإحراج. سرعان ما خاض الحوثي أكبر حروبه، وربما تصير آخرها. انتشر مقاتلوه على الأرض اليمنية كلها، تقريباً، وانكشفوا لأول مرة كما لم يحدث من قبل. عادت المعلومات القديمة عن الطبيعة الغرائبية للمقاتل الحوثي. ومن المثير، أيضاً، أن الكثيرين لا يؤمنون بقدرة الحوثي على حسم حروبه إذا ما حُرِم من الخيانات ودعم كتائب صالح. بقي الحديث عن المقاتل الحوثي ينحصر حول شروده الهستيري، وتساميه العجيب. فهو يُرى يتسلق جبلاً ليهاجم أناساً يطلقون عليه الرصاص مباشرة وهو بلا غطاء. اعتمد الحوثي على ذلك الشرود، وكان يدفع بمقاتليه بالآلاف وغالباً ما كانوا ينتصرون بعد خسارات فادحة. رصد الكاتب اليساري عيدروس النقيب تلك الظاهرة وتوصل إلى ملاحظة تقول إن الحوثي، عندما يستهدف أرضاً أو موقعاً، يدفع بألف من رجاله لكي يصل منهم ١٠٠. أي أنه يكسب معاركه، حتى الصغيرة، بخسارة ٩٠٪ من رجاله. ليس لقتلى الحوثي أسماء، ولا جنازات، ولا يشيعون. وهو أيضاً لا يعزيهم في خطاباته. يحصل عليهم بوصفهم لا أحد، ويموتون كذلك. ومن شمال اليمين الفقير والمسحوق يحصل الحوثي على أولئك الرجال المستعدين لنقل السلاح من كتف إلى كتف.
قبل أكثر من شهر حصلت على معلومات ميدانية من أطباء من تعز وصنعاء حول بعض العقاقير التي تصرف للحوثيين. منها: لورازيبام، وراسبيريدون. بعض تلك العقاقير من مشتقات الدايازيبام، وهي عقاقير تعمل على مستوى المستقبلات في الدماغ. أخبرني بعض الأطباء، كما زودوني بصور لعُلب الدواء التي أحضرها المقاتلون الحوثيون، عن حالات توتر وهياج وشرود يعاني منها "الأطفال الحوثيون". طبيب من مأرب قال في واحدة من مشاهداته إن جرحى الحوثيين يبدون جلداً لافتاً وتسامياً فوق الآلام، لكنهم سرعان ما يبدون ضعفاً رهيباً بعد مضي يومين أو ثلاثة، وينهارون بتسارع مخيف بعد ذلك.
أحد القراء، وهو يملك محلاً صغيراً في إب لبيع كروت الشحن، أخبرني عن مجموعة من المقاتلين الحوثيين طلبوا منه شرائح تلفون. وبعد جدل اكتشف إنهم لا يملكون تلفونات، ولا مال. لدى الحوثي جماعة معزولة عن كل شيء حتى عن نفسها. سيطر عليها بسلسلة من الأناشيد والعقاقير والإيحاء الديني الكثيف مع جرعات من الخوف فسلبها وجودها المادي والأخلاقي والذهني. في تلك الشمولية القاسية التي مارسها الحوثي مع جماعته، مستعيناً بسلالة واسعة تنحدر من حوالي ١٧٠ بيتاً هاشمياً كبيراً في صنعاء وما حولها، حصل الحوثي على مُراده: جماعة عمياء تملك القدرة وباستطاعتها أن تجلب إليه ما يشاء وأن تنصبه مع نهاية الحرب ملكاً.
أطباء ميدانيون أكدوا، أكثر من مرة، وجود تمائم وأحراز مقدسة لدى بعض القتلى الحوثيين. أما الجنرال جواس، القائد الجنوبي الذي قتل مؤسس الجماعة في العام ٢٠٠٤، فقال إنه وجد لدى المؤسس نفسه تميمة عملاقة يبلغ طولها الأمتار، ولا يزال يحتفظ بها.
صارت صعدة مدينة خالية من الأطفال والشبان، ولا يتجاوز متوسط العمر فيها ٤٠ عاماً. وهو متوسط عمر كان سائداً قبل ألف عام من الآن. أن يقذف الحوثي بصعدة ألف عام في ظلام التاريخ فذلك أمر متوقع. غير أن الأمر أسوأ من ذلك. فقد عادت صعدة، والمدن والقرى التي تصعدت معها، إلى زمن ما قبل النبوات، وما قبل المعارف. الرواية التي سردها الصحفي الشاب عزوز السامعي بعد عودته من معتقل حوثي في إب كانت مقلقة. على مدى أيام، يقول، تعاقب عليهم شبان حوثيون معزولون عن العالم ومطوعون كلياً. كانوا يحدثونه، وعيونهم مليئة بالثقة والإحساس الفائق بالنعيم، عن نور مسيرتهم الذي أوشك أن يغمر كل بلاد في العالم. لا يمكن أن تكون العقاقير وحدها التي تفعل ذلك. فثمة ما هو أكثر فداحة من العقاير، إنه الـ new speak أو الخطاب الجديد كما يسميه جورج أورويل، أي الشمولية العقائدية المفترسة. تلك سرعان ما تفرغ المرء من نفسه وتحيده عن ذاته ثم تجعل منه لا أحد، يتلقى أومر/ مدخلات وينفذها بتفان نادر. سردية رئيس الوزراء، بحاح، تؤكد ذلك. وهو واقع في الأسر توسل إليه الحوثيون أن يجلس إلى عبد الملك الحوثي ولو دقائق. كانوا أكيدين، وقد أبلغوه ذلك، أن كلمات عبد الملك ستغسل كل الضلالات التي في مخيلة رئيس الحكومة، وأنه لن يمضي سوى وقت قصير حتى يقع النور في قلبه ويدرك الحقيقة كلها، وكذلك الطريق. بعد محاولات مرة تقبل بحاح الفكرة واشترط أن تجري مكالمة هاتفية بين الرجلين. على الهاتف، بحسب رواية بحاح، كان عبد الملك الحوثي يتحدث كطفل مدرسة.
عندما يموت كل رجال الحوثي في الجبال والمنحدرات ومداخل المدن سوف لن يندم عبد الملك عليهم كثيراً. سيقول، وهذا ما تقوله كلماته السابقة وتؤكده السلالة، إن الله لم يرِد بالأمة خيراً بعد. وأن الخسارة الكبرى التي سينالها جيشه ليست في الهزيمة العسكرية والسياسية بل في حرمانهم من أن يكون هو سيداً عليهم. ومن غريب أن الحوثي بعد عملية إيحاء داخلية وخارجية واسعة ومديدة خلق جماعة ضالة ومتجانسة، لا تفهم العالم ولا تحس بوجوده. أما عبد الملك الحوثي، وهو جالس فوق ذلك، فقد بدا أكثر تيهاً وضلالاً من مقاتليه.