2015-07-27 الساعة 03:42م
أخيرا ينطلق موقع هافينغتون بوست باللغة العربية، وكلي أمل أنه سيحمل للقراء العرب إضافة نوعية، في خضم البحر العرم من مواقع الإنترنت والمدونات ومواقع التواصل الإجتماعي التي يمور بها فضاؤنا العربي.
في السنوات الثلاث الأخيرة من إدارتي لشبكة الجزيرة كنت منشغل البال بقضية جوهرية، أساساها أن الإعلام التقليدي يواجه تحديا ضخما يتمثل فيما كنا نسميه بالإعلام الجديد، هذا التحدي فيه عدة مستويات، أهمها أن الإعلام الجديد مرن، سريع، تفاعلي، وأقل تكلفة من المؤسسات الإعلامية التقليدية، وبسبب ذلك صار وبسرعة فائقة يجتذب قطاعات واسعة من المشاهدين لا سيما الشباب.
لم أكن وحيدا في انشغالي بأثر الإعلام التفاعلي على الإعلام التقليدي، بل كان هذا هو الموضوع الأهم الذي تناقشه معظم الملتقيات والمؤتمرات الإعلامية العالمية، لقد استطاع الإعلام التفاعلي أن يزعزع ثقة كثير من المؤسسات الإعلامية بنفسها، وأن يثير الفزع في نفوس مدرائها، فالنموذج الهيكلي الهرمي الموروث صار عرضة للانهيار بسبب نموذج تشاركي مسطح، متخفف من صرامة البيروقراطية المركزية وتكاليفها الباهظة، كما أن سوق الإعلان بدأ يتجه نحو الإنترنت بسرعة فائقة، محدثا خسائر حقيقية في عوائد شبكات التلفزة والصحف العالمية، مما دفعها للاستغناء عن آلاف العاملين.
في البداية استقبل المدراء التنفيذيون والمحررون المخضرمون الوافد الجديد بقدر من الإزدراء، وكنت أبتسم عندما أستمع إلى كبار المحررين ينهالون على الإعلام التفاعلي بأوصاف من قبيل أنه صبياني، وأنه موجة عابرة وتنقضي، وأن المشاهدين والقراء سينفضوا عن إعلام الإنترنت متى ما اكتشفوا هشاشته وسطحيته وابتعاده عن القيم المهنية الأصيلة.
الحقيقة أنني كنت متحمسا للإعلام التفاعلي، ورأيت فيه تطورا طبيعيا سيستمر ويتعزز، وأكثر ما شدني إليه شعوري أننا أمام تيار عارم سيقدم للفرد العادي فرصة صناعة الخبر، وسوف يعزز ديمقراطية المشاركة الإعلامية، ويكسر احتكار الشركات الإعلامية العالمية الباحثة عن النفوذ والمال.
ولكنني كنت أرى أن هناك ثغرات حقيقية في الإعلام التفاعلي، تنبع من طبيعة الظاهرة ، أهمها غياب الأولويات التحريرية، وضعف الدقة الخبرية، وعدم قدرة كثير من المواقع على وضع الأحداث في سياقها الطبيعي، وعليه بدأت أطور مفهوم الإعلام التكاملي Integral Media ويدور حول الأخذ من الإعلام التفاعلي أفضل ما فيه: التشاركية، اللامركزية، السرعة والتنوع، بالإضافة إلى أفضل ما في الإعلام التقليدي: وضوح الأولويات التحريرية، الاحترافية، بالإضافة إلى وضع الخبر في سياقه.
في أحد المؤتمرات عام ٢٠١٢ وبينما كنت أشارك في ندوة عن التحديات التي تواجه الإعلام التقليدي التقيت بالسيدة أريانا هافينغتون مؤسس ورئيس تحرير هافينغتون بوست، ولم يكن عسيرا أن نتفق على كثير من المشتركات، لقد كان موقع هافينغتون بوست قد حقق بالفعل كثيرا من القيم الإعلامية التي تجمع بين الإعلام التفاعلي والإعلام التقليدي، وأكثر ما ميز الموقع أنه وليد الإنترنت بالأصل، أي أنه ليس واجهة لمؤسسة إعلامية تقليدية، بل ولد وترعرع من صميم الظاهرة الجديدة، واستطاع استلهام روح التشاركية شكلا ومحتوى.
تحدثت أريانا عن استراتيجية الموقع في الانطلاق نحو العالمية بلغات مختلفة، ورأيت في هذا النموذج بالذات تحقيقا لمبدأ أعتنقه بإخلاص: آن للعالم أن يتحدث إلى بعضه البعض منطلقا من صميم الإيمان بالتنوع الحضاري والثقافي، فلكل أمة ما تساهم به من تجاربها وقيمها، وعلينا جميعا أن نفهم الحضارات الإنسانية على أنها أنهار فريدة تصب في بحيرة إنسانية مشتركة، فالتنوع منجاة للعالم من الوقوع في شراك الأحادية السياسية والحضارية.
في زياراتي لغرفة أخبار هافينغتون بوست في واشنطن ونيويورك، ولقاءاتي مع عدد من محرري الموقع بلغات مختلفة في أنحاء العالم، شعرت أننا أمام مشروع يحقق كثيرا من المباديء التي تضمنتها فكرة الإعلام التكاملي، من خلال التوازن بين حسنات الإعلام التفاعلي والإعلام التقليدي، وهكذا بدأنا العدة لإطلاق الموقع العربي.
الموقع العربي ينطلق في ظروف بالغة التعقيد يمر بها العالم العربي، لحظة انتقال تاريخية تصاحبها دفقات عارمة من الإنفعال والتوتر والصدام، ليس العالم العربي اليوم هو الحلم الذي يصبو إليه أبناؤه، لا سيما الشباب منهم، وفي خضم هذا الإنتقال ينبغي أن يبقى الأمل حيا، لا بد من أن نرى الواقع اليوم على أنه لحظة انتقال نحو المستقبل، وأن لا ننغرس في هذا الواقع لمدة طويلة تمزق نسيج مجتمعاتنا وتزرع اليأس في قلوب شبابنا.
سوف يسعى الموقع لأن يكون نافذة على المستقبل، سوف يسعى لتعزيز الأمل في نفوس القطاع الأهم من مجتمعنا العربي: الشباب، وفي سعيه نحو تحقيق ذلك سيكون مساحة للتعبير عن الآراء والأفكار بحرية وتوازن، بعيدا عن الاستقطاب والإقصاء.
الإعلام العربي في حاجة ملحة للمصداقية والتنوع، وهو ما ننوي أن نلتزم به في سياستنا التحريرية عبر فريق محترف متعدد التجارب والخلفيات، تجمعه رسالة أساسية واحدة: نحن نضع الإنسان في مركز سياستنا التحريرية، لا ننحاز لمراكز النفوذ على حساب الناس، ونمد أيدينا للجميع ليشاركوا معنا في تحقيق هذه الرسالة، من خلال فتح الباب لشريحة واسعة من المثقفين والسياسيين والناشطين والإعلاميين للكتابة في الموقع، ولتبادل الرأي في حوار عربي شامل وبناء.
ليس الموقع إخباريا فحسب، بل هو متنوع، فيه الموضوعات الإجتماعية والحياتية والعلمية المختلفة، وسيكون نافذة على الإعلام العالمي، يتبادل مع مواقع هافينغتون بوست بلغاتها الثلاث عشر المختلفة المواد الإعلامية المتنوعة.
سعيد بانطلاقة الموقع، وكلي أمل أن ننفتح على أفق جديد، نبنيه جميعا يدا بيد مع جمهورنا العربي، ونفتح فيه بابا للتواصل والأمل والمحتوى الشيق المفيد.