2015-08-29 الساعة 02:16م
تستحق إيران كل النقد الموجه لها، بسبب سعيها إلى التدخل في شؤون جيرانها، والتمدد على حسابهم، طامحة لأن تكون قوة إقليمية، تصب مياه ثروات المنطقة في طواحينها. ولكن، ما يجعل إيران عدوانية ضعف الأطراف المقابلة وتفككها وتفرقها، وافتقادها الرؤية الاستراتيجية، وردة فعلها المتأخرة. هذا الوضع الضعيف الذي تعتقده لجيرانها يشجعها على رسم استراتيجية عدوانية، تستفيد من هذه الفرصة. وهنا، من المهم أن نفهم عقل إيران.
ترى إيران إمكانية استخدام الشيعة أداة لها. أولاً، عبر التحريض بأنهم عبر التاريخ الإسلامي بقوا يمثلون المعارضة، وبقيت بنيتهم النفسية بنية المعارضة العاجزة التي تذعن وتقبل السلطان القائم، وتضمر بداخلها شعوراً بالمظلومية، لكنه شعور مستكين وهاجع، لشعوره بالعجز عن فعل أي شيء. وثانياً، السعي إلى تحويل هذا الشعور وهذه الاستكانة إلى حركة. وثالثاً، دفع الشيعة إلى اعتبار جماعتهم جماعة مذهبية خاصة عابرة للحدود، وإنها جماعة مظلومة ومضطهدة ومهمشة، بينما يمكنها الوصول إلى الحكم، ثم قالت لهم: لا تستكينوا، لديكم الآن قيادة ممثلة بإيران. وقد طورت إيران نظرية ولاية الفقية، وهي نوع من الحكم الثيوقراطي الديني المستبد، مع منح ديناميكية محددة منضبطة للمجتمع، وسعت إلى تأجيج نزعة الثأر والانتقام لمقتل الحسين قبل قرابة 14 قرناً، بما يرفع من حالة الاستعداد القتالي والكفاحي عند الشيعي، بعد أن تعزله فكرياً ونظرياً وانتماء عن وطنه وجماعته وتربطه بقُم وبولاية الفقيه. وعملت على تعبئة أطياف من الشيعة في البلدان كافة، لتشعرهم بقوتهم في مقابل تهلهل الآخرين وتشرذمهم، وغياب مشروعهم النهضوي.
تعتقد إيران أن العرب قوة كبيرة، لكنها مهلهلة الآن، وتفتقد المشروع والقيادة والحزم وإرادة الصراع. وبالتالي هي فرصتها التاريخية لتوطد نفوذها في الخليج، وفي عدد من دول العرب قبل أن يستفيقوا، ويبنوا مشروعهم وقوتهم لمواجهتها. ولتنفيذ هذا، عليها أن تحقق تحييد تركيا بالاعتراف بالدور التركي إلى جانب الإيراني من جهة، وإقامة مصالح اقتصادية واسعة بين تركيا وإيران. لذلك، تحتاج السلاح النووي لفرض هذا كله. ولكن، إن حرمها الأميركان من هذا السلاح، في الوقت الحاضر، فلا بأس أن تستبدله بالاعتراف بدورها القيادي في المنطقة على حساب العرب، وتأمل أن يقتنع الأميركيون بهذا ليكون جزءاً غير معلن من الاتفاق النووي، منتظرة عقداً آخر، توطد فيه دورها السياسي وقوتها الاقتصادية وقدرتها العلمية والتكنولوجية، لتعود حينها إلى متابعة برنامجها النووي.
"يعتقد الإيرانيون اليوم أنهم أصحاب القدرة البشرية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية الأكبر في المنطقة، بينما يمتلك جيرانهم العرب ثروات نفطية هائلة "لا يستحقونها""
يعتقد الإيرانيون اليوم أنهم أصحاب القدرة البشرية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية والسياسية الأكبر في المنطقة، بينما يمتلك جيرانهم العرب ثروات نفطية هائلة "لا يستحقونها"، تقع تحت ناظريها وتحت أنفها، وهي تشم رائحة النفط والغاز المتدفق على بعد بضع عشرات الكيلومترات من حدودها وشواطئها، مثل: حقل مجنون العراقي، ويقع على حدودها، ويضم مخروناً بنحو 20 مليار برميل، وحقل صافانيا البحري السعودي، وهو أكبر حقل بحري في العالم، وحقول الغاز القطرية، وهي ثالث أكبر حقول غاز في العالم، وحقول الكويت والإمارات وعمان وغيرها، بينما لا تنال إيران منها شيئاً، فتنظرها بحسرة، وهي تتدفق إلى الخارج فيسيل لعابها، وهي القادرة على فرض حصار في مضيق هرمز، ومنع صادرات هذه الثروة، ما لم تخلق بلدان الخليج منافع كبيرة لإيران، بطريقة أو بأخرى، أو تشاركها في حصةٍ بطريقة ما.
ترى إيران أن مشكلتها في هذا هي مع الحارس الأميركي الذي يمنعها من القيام بذلك. لذلك، من مصلحتها أن تقلب العلاقة بينها وبين الأميركان من "عداوة معلنة" إلى صداقة معلنة، والصعوبة أمامها هو الحرج الذي تجده بالتحول من رفع شعار "دمار إسرائيل وتحرير القدس" و"العداء لقوى الاستكبار" و"الشيطان الأكبر أميركا"، إلى التحالف العلني مع هذا الشيطان. وهي تريد أن تبني على علاقات الشاه السابقة الوطيدة مع أميركا، من دون أن تعلن ذلك. وقد بدأت إيران ترقص مع الأميركان في العراق، وقد أسقط هؤلاء صدام وسلموا العراق لها، في تواطؤ مفضوح، وهي تريد أن تثبت للأميركان أنها الآن القوة الكبرى في المنطقة، وأنه يمكن للولايات المتحدة أن تعتمد عليها أكثر من اعتمادها على السنة في منطقة الخليج والعراق، الذين "أنتجوا القاعدة وانتجوا داعش"، بينما الشيعة قوة منضبطة، ولها مرجعية وقيادة مركزية، تأمر فتطاع، بينما يفتقدها السنة، وهي القوة التي يمكن أن تحارب القاعدة وداعش، لذا لها مصلحة كبيرة في وجود القاعدة وداعش وتمددها، لكي تجعل الأميركان بحاجة لها.
تنتظر إيران أن تجري هذا التحول المحرج والصعب في سياستها، بعد مصادقة الكونغرس على اتفاق النووي، ما سيفتح لها عهداً جديداً من علاقات التفاهم بينها وبين أميركا. وترى إيران أنها فرصتها التاريخية. فالأميركان يحضرون أنفسهم للانفكاك عن المنطقة، ويعتقدون أنها فرصتهم للحصول على حصة كبيرة من "التركة الأميركية". وبحسب اعتقادهم، يمكنهم إيجاد منافع كبيرة لهم، بفرض أنفسهم قوة عسكرية وسياسية واقتصادية وعلمية. هم يعتقدون أن اقتناع جيرانها بترتيبات تخلق مثل هذه المنافع يأتي عبر امتلاك القوة، استخدموها أو لوحوا بها، أو مجرد أن يعلم الآخرون أنهم يملكونها، وهم، أي الإيرانيون، يحتاجون فقط لبعض الصبر، مع استمرار بذل الجهود على نحو حثيث.
أما من وجهة نظرنا، نحن العرب، فلإيران أن تفكر كما تريد بما يحقق مصالحها، سواء فكرت بشكل عقلاني، وهذا ما نريده، أم على نحو عدواني، وهذا ما يجب أن نواجهه. ولكن، في المقابل، يجب أن نفكر كعرب كما نريد أيضاً، وبما يحقق مصالحنا، وأن تكون لدينا الرؤية والاستعداد والقدرة والإرادة للفعل، بما يشابه فعل إيران ويوازنه، فهذا فقط ما يجعل إيران تعود إلى عقلها وحجمها، وأظن أن عاصفة الحزم اليمنية كانت مثالاً. ولكن، يجب أن لا يبقى مثالاً وحيداً، بل أن يكون ضمن رؤية استراتيجية متكاملة، تجعل إيران تعود إلى رشدها، وترضى ببناء علاقات حسن جوار حقيقية، وهذا في مصلحة الجميع، وأن تقيم علاقات طبيعية عادلة مع جيرانها تتسم بحسن الجيرة.