2015-09-03 الساعة 02:11م
حكاية ثورية رائعة، تشربت عناوينها المُلفتة منذ صغري، وعندما وجدتها مُبعثرة الجوانب، قررت الإيغال في جميع تفاصيلها مُستعيناً هذه المرة بفيض الأمكنة، فابتدأت الوقائع من الوهلة الأولى تنساب إلى مسامعي طرية عذبة، مشحونة بالتباهي، محفوفة بالغبطة، لحظتها قلت في خاطري عن هذه الثورة المُختلفة: إنها المجد الذي ورثه الجميع.. وعمل لأجله الجميع.
نحن اليمانين جُبلنا على أن كرامتنا فوق كل شيء، وإن كانت هذه الكرامة قد رضخت وبعثر بهيبتها فوق التراب بفعل جبروت الطغاة من بيت حميد الدين، الذين استغلوا جهل الشعب المشبع بالثقافة الدينية البسيطة، وأوهموهم أنهم يحكمون بأمر الله، وباسم الحق الإلهي، وأن طاعتهم والرضوخ لاستبدادهم المطلق من طاعة الله، في صورة مشابهة لتلك التي حدثت في أوربا إبان العصور الوسطى، حين أستغل الدين لمأرب أخرى، وكأن بالأئمة يكررون ما قاله "جيمس الأول" ملك بريطانيا ذات يوم، بأن الملوك يمشون على عرش الله في الأرض. لقد كانت التبريرات الدينية للأئمة أساس سلطتهم، ومصدر قوتهم، وكانت تصرفات "العُكفة" عساكر الإمام تثير الرعب والخوف والغضب عند كثيرين، وكان الصبر على أذاهم سمة دائمة تدور في بوتقة طاعة الله وطاعة ولي الأمر، وفي حال تجاوزت تلك التصرفات الهوجاء ما لا يستسيغه العرف ولا "التدين البسيط" كان التمرد والثورة..
ما حدث في "صنيمات"- بكسر النون والياء- وهي إحدى عزل مديرية المسراخ جبل صبر، في منتصف أربعينيات القرن الفائت من ثورة أو تمرد، تدور في ذات المسار الذي اشرنا إليه أنفاً، ومبعثها تصرفات رعناء قام بها حشد كبير من عساكر الإمام، خرجوا عن السياق المعهود في "المأموريات" إلى سلوكيات أكثر شذوذاً، نفد عندها "الصبر"، وتوقفت "الطاعة"، وثارت "الكرامة"، بعد أن خيم على المنطقة ليل كئيب، وظلمة رهيبة، بمجرد أن حل فيها أولئك "العُكفة" الأعفاط الذين لم أهتدي إلى رقم معين لعددهم ، إلا إنهم حسب تخمينات مشتتة ما بين الثلاثين والخمسين فرداً، أغضبوا الجميع بعنجهيتهم وأوامرهم التي لا تنتهي، وطول مدة بقائهم.
ذات مساء والعسكر مازالوا مُرابطين في عدد من دور "صنيمات" العتيقة (نوبة المصرع، ودارالنكر، وبيت السقيفة، ودار النجادي) استخف قائدهم حمود الرداعي بالمواطن محمد العقور، وطلب منه أن يرسل إليه زوجته كي تدلك قدميه؛ تلقى العقور الطلب الفاجعة ببرود شديد، مجيباً بالقبول وأنه سيجلب السمن البلدي ـ أداة التدليك ـ بيديه؛ كان "الانتقام" لحظتها هو القرار الوحيد الذي كتمه العقور في نفسه، وبمجرد أن أبلغ أهله وذويه قُرعت الطبول، وذُبحت الذبائح" وكأن عرساً سيُقام، الحشود توالت من المناطق المجاورة، و "العُكفة" في الدور القديمة منتظرين للعشاء وتدليك الأقدام؛ وبذات السكاكين التي ذبحت بها أثوار الوليمة، فُصلت رؤوس "العُكفة" عن أجسادهم، ثم وضعت بكبرياء فوق مائدة عشاءهم الأخير، ولم ينجو من ذلك الموت المحقق سوى "عُكفي" واحد، نكلوا به اشد تنكيل، وأرسلوه مخضباً بدمائه إلى من يهمه الأمر.
تلقى أمير تعز النبأ الرهيب بغضب شديد، ألب العسكر، وأعد العدة لحملة شرسة، وجاءته الأوامر من الإمام يحيى تعزز توجهه الانتقامي، فأخرج لأجل ذلك جيش عرمرم بقيادة "عاملين" لكل واحد منهما قواته وطريقه. أطبق الجيشان اللذان تجاوز عددهما الخمسمائة "عُكفي" كطرفي كماشة على المنطقة من الأعلى ومن الأسفل، استبيحت "صنيمات" وما حولها من قرى، وأفرغت الشعاب من الأنعام، والمدرجات الزراعية من المحاريث، والمدافن من الحبوب، كما صودرت جميع الأسلحة والذخائر من المواطنين، وحين طال أمد الحصار اضطر كثير من سكان المنطقة لمغادرتها إلى مناطق أخرى، واستقر بعضهم في منطقة "عبدان" في شرقي صبر ولا زالوا هناك حتى الآن، وما عاد الآخرون إلى إلا بعد انتهاء ذلك الحصار المُر بزمن.
يفتخر أبناء "صنيمات" بثورتهم تلك، ويتناقل الجميع هناك أحداثها باعتزاز يشوبه ألم، خاصة عند من عايشها عن قرب، فهذا الشيخ الطاعن بالسن عبده أحمد محمد الحيدري (125 عاماً تقريباً) ـ هكذا كانت حِسبته - تجاعيد الزمن المرسومة على جبينه جعلتني رؤماً، خلت البسمة والحديث شاق عليه، لكنه تبسم وتحدث لي؛ وأطلعني بصعوبة على جميع التفاصيل المرتبطة بذات المكان، وإذا ما نسي شيئاً ذكره من حوله من الأبناء والأحفاد، وما عليه إلا أن يؤكد أو ينفي. وإن كانت أغلب الأحداث السابقة مستقاة منه، إلا أن ضرورة التدقيق جعلتني أستثني ملا يتوافق مع مصداقية البحث والتقصي، ولعل ألأروع في حديثه حين صارحني "أن كل شيء يهون إلا الكرامة..".
المهام النضالية لأبناء "صنيمات" لم تتوقف عند حدود تلك الثورة، فالإستباحات المطلقة لممتلكات الرعية جعلت كثير من الشباب المتحمس والمهجر قسراً يضيق ويتذمر، فكانت تحدث بين الفينة والأخرى مناوشات وتحرشات إستنزافية، كلفت "العُكفة" المحتلين الشيء الكثير، والجلاء التام "للعُكفة" تحقق بفعل تلك الضربات الموجعة، المتبوعة أصلا "بهجر" قبلي- ثور للإمام وثور "للعُكفة" - فانقشعت بذلك صفحة مظلمة عاشها أبناء "صنيمات" لشهور.
ومما تحفظه ذاكرة العوام أن نساء "جبل صبر" كُن يُرددن في الشعاب "ملالاة" شعبية تُصور معاناة أهل "صنيمات" وقد اهتديت إلى إحدى أبياتها:
"وابو ينا كم نفذوا عساكر * على صُنامه يقبضوا الميازر"
رغم الجهل المُدقع، والعزلة المُفرطة، بدأ فكر الثورة والتمرد يتسلل إلى العوام، بعيداً عن الشمول الذي تقتضيه وتسعى إليه الثورات المنظمة المتعارف عليها، ومن هنا يأتي التأكيد أن الثورات المنظمة التي قادها أهل العلم والدراية، هي من حظيت بالدراسة، وما دونها من ثورات ارتجالية محصورة في مناطق معينة فإنها وعلى كثرتها لم تحظى بالدراسة والتوثيق إلا ما ندر. ومن هذا المنطلق تبقى الدعوة مفتوحة لأولئك المفتونين بالتاريخ، الباحثين في أغواره عن كل جديد، أن يجددوا العزم ويخوضوا غمار البحث والتقصي عن جميع التفاصيل الثورية المنتصرة للكرامة والإنسان..
من صفحته على "الفيسبوك"