2015-09-10 الساعة 12:10م
في كل مرة تكون لي لقاءات مع الجيل النعماني الثاني وبالذات الابنان عبد الله ومصطفى والحفيد لطفي، نجد أن الحديث حول العاصمتيْن بيروت وصنعاء المغلوبتين على أمرهما أكثر من عواصم عربية أخرى، فالغُلب نفسه هو الجامع المشترَك بيننا. هذا كان قبل المحنة التي تعيشها عاصمة الأمويين دمشق في ظل الأسديين، ناهيك بحلب، وتعيشها عاصمة الرشيد بغداد ناهيك بالموصل والبصرة خلال سنوات المالكيين.
وفي زمن الغربة القاسية كان شيخ النعمانيين الأستاذ أحمد نعمان عندما نلتقي بخيار القوم في المجالس التي توزعت بين جدة والقاهرة وبيروت، أو يكون النعمان أحد نجوم مجلس الطيِّب الذِكْر الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري في منزله، كان هذا القامة المستنيرة يتحدث عن صنعاء بمفردات المناجي. وافترضْنا للوهلة الأولى أن الغياب القسري للأستاذ النعمان عن اليمن مناضلاً لا يساوم كما بعض رفاق الدرب النضالي هو مبعث هذه المناجاة لصنعاء، لكن عندما نستعيد رؤية مَن ليس يمنيًا أمثال الكاتب أمين الريحاني الذي هو من لبنان المكتمل الجمال الطبيعي المتباهي بتراثه الأبجدي، لا نعود نستَغرب المفردات النعمانية الوجدانية سمعناها من الأب الأستاذ أحمد ومن الابن محمد الذي لم يرحم الجُناة رؤيته لمستقبل اليمن فاغتالوه يوم 28 يونيو (حزيران) 1974 شُلَّت أيديهم في بيروت التي رآها النعمانيون الملاذ الذي يعوِّضهم «صنعاء لؤلؤة المدن ذات الأنغام والأشجان الطروب ذات حدائق الكروم والجمال الفتَّان والأدب الرفيع الرقيق والقريبة من أرض الأمجاد الأثرية أرض مأرب وظفار باعثة الخيالات الشِعرية في تاريخ اليمن..».
أما الذي رآه في هذه المدينة أمين الريحاني أحد جلساء مجلس الطيِّب الذِكْر الملك المؤسس عبد العزيز الذي نعيش هذه الأيام وهْج الذكرى الخامسة والثمانين لليوم الوطني لتأسيس مملكة الحزْم والعزْم فقرأناه له في بعض صفحات «ملوك العرب» وجاء فيها:
«تراءت لنا رؤوس المآذن في تلك المدينة ثم قباب مساجدها وهي بيضاء تتوهج في نور الشمس الذي يترجرج كالزئبق في الجاف الشفاف من الهواء، لقد بدت لنا المدينة وهي محاطة بالجبال تمتد شرقًا وغربًا كأنها وهي كلها بيضاء سلسلة من الجبال الكاسية في سهل ذهبي منقطع الاخضرار أي صنعاء: مثلكِ لنا التاريخ فكنت مليكة الزمان، ومثلك لنا العِلْم فكنتِ يومًا ربة العرفان، ومثلكِ لنا الأساطير فكنتِ سيدة الإنس والجان. أجل فكم ليلة وفي اليد الكتاب وإلى جانب الكتاب نور شمعة ضئيل تغلغلْنا في سراديبك ووقفْنا عند كنوزك وطفْنا حول قصورك وسمعْنا الشعراء ينشدون الشعر في دورك. واليوم، ومطيتنا غير الخيال، نشاهد ما يثبت المقال ويحقق الأمل. هذه بيوتك العالية وقصورك الشاهقة فما كذب التاريخ. وهذا جمالك الطبيعي وبهاؤك العربي فما كذب الشعر وفي خزائنك الكتب النفيسة والمخطوطات فما كذب العِلْم وهذه كنوزك وسِحْر قصورك وسِحْر الأسماء فيك فما كذبت الأساطير. كنا نظنها أسماء ابتدعها الشعراء لعرائس الجن والخيال ولكنها من الحقيقة في أعلى مكان. أجل إن صنعاء في محاسنها لا تخيِّب للزائر أملاً وكلما دنوتَ منها وهو عكس الحقيقة في كثير من المدن ازداد رونقها وازداد إعجابك بها. هي في مقامها الطبيعي عجيبة، فيها الهواء أعذب من الماء والماء أصفى من السماء والسماء أجمل من حُلم الشعراء. إن صنعاء مدينة عربية صافية روحًا وشكلاً فبناؤها أجمل هندسة وأكثر إتقانًا لأن الأسلوب العربي فيها لا يشوبه شيء أجنبي. إن الهواء والسماء والماء كلها تبتسم لصنعاء..».
يدمي القلب مثل هكذا وصف لهذه المدينة ونحن نراها محتلة من بني قومها كما احتلال طرابلس الغرب من أبناء ليبيا المبعْثَرة في الجناح المغاربي من الأمة، وكما احتلال إرادة مصير الوطن اللبناني من خلال احتلالٍ نسبي لعاصمته بيروت التي كانت تئن من وطأة تخمة السلاح والمسلحين وأُضيفت إليها ويلات النفايات على أنواعها وكثرة التصريحات التي لا تحقق حلاً، بما في ذلك المطالب الروحية الأشبه بعظات وخُطب في صلاة، فيما المطلوب إلقاء الحُرْم على مَن يؤذي الوطن بالقول أو بالولاء المطعَّم بتنظيرات أشبه بـ«الفتاوى الداعشية».
كما أن مثل هذا الوصف لصنعاء يجعلنا نسأل هؤلاء: هل مثل هكذا عاصمة تستحق مثل هذا الجحود من الجاحدين المقامرين من حوثيين وصالحيين؟ وإذا كان هؤلاء لا تلين قلوبهم عند سماع كبير فنانيهم أبو بكر سالم الذي زاره في سكنه في الرياض رئيس الوزراء خالد بحاح للاطمئنان على صحته، يصدح «يا أحبة رُبى صنعاء، عجب كيف حالكم»، ولا هم يعيدون النظر في مشروعهم الذي قد ينتهي بـ«اليمننة» على حد ما سبق وخشي من حصوله النعمان الأب أحمد ولفت انتباهنا إليه الحفيد لطفي، عندما فارق الجد الحياة بتحذير أشبه بالوصية: «أحذِّر اليمن من مصير كمصير لبنان الذي نُكب بأبنائه أكثر مما نُكب بأعدائه. وقد جاءت الأحداث الأخيرة (تكررت في الحاضر بصيغة أخرى) شاهدًا عدلاً على ما حذَّرْنا وأنذرْنا، وقلنا إن الشعب الذي لن يرحم نفسه لن يرحمه أحد ولن يعينه أحد ولن يساعده أحد».. إذا كان الجاحدون المقامرون لا يسمعون الصدَّاح أبو بكر سالم ولا «المؤذِّن» إلى التنبه من خطر اليمننة الشيخ النعمان فهل لأنهم مسحورون بالتهيؤات الخامنئية والخرائط التي يرسمها جنرالات الحرس الثوري؟
لولا عاصفة الحزْم لكانت اليمننة حدثت. لكن بعد العلاج الحازم المقرون بالإغاثة وبإعادة ما تهدَّم تبدو الأمور أقرب إلى استعادة صنعاء التي كان أدقّ وأرقّ واصفيها المستشار القانوني (الذي ساهم في إعداد التشريعات القانونية للجمهورية وشغل لفترة منصب نائب رئيس الوزراء) حسين الحبيشي الذي كتب عنها تأليفًا ولقَّن تدريسًا وعلى نحو مُثلاء له، الدكتور علي الوردي عن المجتمع العراقي والدكتور جمال حمدان عن شخصية مصر والدكتور خليل أحمد خليل عن الخصوصية اللبنانية فكريًا واجتماعيًا ومذهبيًا. ومن جملة تشخيص الحبيشي لصنعاء قوله: «إنها محاصَرة بأسوارها وجبالها ومنهوبة من الغزاة أو أهلها من حولها. لها عبق تاريخي وسمات خاصة، وآثار عمرانية ومباهج وتميُّز بالأسوار القديمة والأبواب المتعددة. رغم معالم الحداثة فإن التاريخ لا يزال يرتعش في أزمتها واعتمدتْها اليونيسكو كمدينة عالمية يجب الحفاظ على مآثرها..». إن صنعاء بهذا التوصيف وبأبيات لا تحصى من شعراء اليمن ومحبي «صنعائها» و«تعزها» و«عدنها» ومساحات البن والجبال التي لا أطيب مذاقًا من عسل نحلها، تفتح الشهية الداعشية وقد تفتح بالتالي الشهية الحوثية الصالحية لكي يفعل «مجاهدو» الطرفيْن ما فعله «الدواعش» في تدمر وبعض مدن العراق تدميرًا لكل ما هو تراثي وتعشقه العيون، ثم ينسحبون إلى الكهوف والجبال.. إنما بعد إمعان التدمير بالرهينة الجميلة صنعاء على أساس إما أنها لهم عاصمة حوثية ذات مرجعية خامنئية وإما عليها وعلى أهلها السلام.
بعد التحرير المتدرج لليمن من خلال العزْم المشروع يتكاثر الحديث حول تحرير صنعاء من القبضة الحوثية - الصالحية. أحيانا يقال إن ذلك سيحصل بعد شهر. وثمة تحليلات ترى أن صنعاء رهينة ولم يعد في يد القابضين عليها سوى التسليم طوعًا. لكن بعد الذي جرى بات جليًا أن تحرير صنعاء وعودة الشرعية إليها هو بمثابة شل اليد اليمنى للمشروع الإيراني الذي بنى حساباته على أساس أن الجبهة اليمنية هي أفعل وسيلة لإضعاف الدور السعودي، ولا تبقى لهذا المشروع سوى اليد اليسرى المتمثلة بـ«حزب الله» في لبنان وبقايا دولة اسمها سوريا. وفي مثل هذه الحال فإن اليد الواحدة مرشحة لأن تصبح مغلولة إلى العنق. وهذا بند موضوع على طاولة أهل القرار الدولي والتشاور في الكواليس خلال اجتماعات الدورة الجديدة للأمم المتحدة هذا الشهر، وقبل ذلك ضمن «أجندة» المحادثات التي جرت بين خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز والرئيس باراك أوباما في البيت الأبيض مع التأكيد بأن هذه القمة حسمت أمورًا كثيرة وأجابت عن أسئلة وتساؤلات، وبالذات ما يتعلق بحقيقة وأبعاد التحرش الإيراني في اليمن والإمساك الحوثي - الصالحي بصنعاء رهينة يمكن تخليصها بضربات جوية متلاحقة اختصارًا لعمليات ينفِّذها رجال المقاومة وهذه ستطول كثيرًا، لكن مبدأ «عاصفة الحزْم» هو إنقاذها وليس استعادتها مدمّرة. فما يفعله الرئيس بشَّار لا يفعله غيره.
وعلى هذا الأساس نستحضر قول الإمام الشافعي عن هذه العاصمة - الرهينة: «يوم تغنَّى في مناقبها القدرْ.. لا بد من صنعا وإن طال السفر».
/نقلا عن الشرق الأوسط/