2015-09-25 الساعة 11:58م
في أواخر ثمانينيات القرن العشرين, وأنا أبدأ حياتي العملية الوظيفية, وفي مكان العمل كان ثمّة "فرَّاش" أميّ بسيط يقوم على نظافة المؤسسة ومكاتبها, وحماماتها, وكان أول من يأتي وآخر من يغادر .. تبيّن لي في ما بعد أن اختيار الرجل, أو "العم محمود" _كما كان يسميه الجميع_ لم يكن صدفة, بل لأسباب تتعلق بمنزلة أسرته الاجتماعية التي كانت تتوراث الخدمة في البيوت والمناسبات.
وذات صباح رأيت الرجل متهللا فرحا يتقافز بين المكاتب, وعندما سألته عن السبب, أجابني والفخر ينضح من جبينه المتغضِّن بالصبر والتعب: "ابنتي كوكب تفوقت فهي الأولى على مستوى الجمهورية في الثانوية العامة"!
بعدها بسنوات أصبحتْ كوكب أستاذةً في الجامعة.. ولن أنسى أبدا زيارتها لي وأنا في هيئة الكتاب _وكان أبوها إلى جانبها مثل ملكٍ غير متوج ! وذلك كي أطبع كتابها الأول!..
هذه باختصار حكاية 26 سبتمبر!
ما كان لمحمود أن يسمي ابنته كوكبًا! وما كان لكوكب أن تنسرب في مدارها المضيء وتصبح أستاذةً في الجامعة دون شمس 26 سبتمبر!
* * *
في أواسط سبعينيات القرن الماضي, وكنت في الخامسة ابتدائي, أصرّ عمّي علي أخو والدي _رحمهما الله جميعا_ على أن نقضي الإجازة الصيفية في خولان للدراسة ومعرفة البلاد! وذهبنا أنا وإخوتي وأولاد عمي إلى قرية "البياض" في "مسور" وكانت المشكلة الكبرى بالنسبة لنا _وقد كنا في ضيافة أحد أثرياء القرية_ أنه لا حمامات إلّا الخلاء أو في العراء. أما الطامّة الكبرى فكانت بِرْكة مسجد القرية الآسنة! تلك البِرْكة التي لا يمكن وصفُها, أو حَصْرُ أنواع ديدانها وضفادعها المعمّرَة والمُستجدّة! الخضراء والصفراء! وفي الواقع أنّ البركة لم تكن ماءً! بل كانت ملايين من الديدان المتزاحمة المتوالدة! تماما مثل الملايين من اليمنيين الذين يأكل بعضهم بعضا عبر عهودٍ من الظلام والجهل والصراع.. كانت اليمن كلها مجرّد بِرْكةٍ آسنة بالمرض والموت والتوحّش, لا فرق بين من يزحف على بطنه أو يمشي على رجليه!
وللأسف, فإن اليمن ما يزال حتى هذه اللحظة معاقا ومن ذوي الاحتياجات الخاصة! فالشعب اليمني ما يزال _وطبقا للتقارير الدولية_ من أكثر الشعوب إعاقةً بدنيا ونفسيا!
في قرية "البياض" _نسبةً لعنب البياض_ وعلى ضفاف بِرْكة الموت, كان صبيان وفتيان القرية ينظرون إلينا وكأننا هبطنا من عالمٍ آخر, رغم قرب قريتنا من قريتهم!.. كنا غرباء فقط لأننا جئنا من العاصمة والتي لا تبعد عن القرية أكثر من خمسة عشر كيلو متر! ولم يكن يمرّ يوم دون أن تنشب معركة وبلا أيّة أسباب تذكر اللهم إلا التوحش والوحشة!
وبعد سنواتٍ طويلة, وقبل أشهر, رأيت أولاد صاحب البيت الذي كنّا عنده وقد تخرّجوا من جامعات بريطانية!.. لقد أصبحوا رجال أعمال! لم تستطِع بِرْكة الديدان والضفادع الخضراء والصفراء أن تقتل أكباد صبيان القرية وفتيانها!
وعندما غادروا كنت قد نسيت أن أسألهم.. كيف حال ديدان بِرْكة القرية وضفادعها الصفراء والخضراء. . رغم معرفتي أنها لم تعد موجودة !
* * *
ألفُ عامٍ على الأقل واليمن بِرْكةٌ آسنةٌ ضخمة تضطربُ أمواهُها الراكدة بالصراع فحسب, والصراع على السلطة فقط كان المحور الأساس الذي تدور حوله الأحداث باستمرار, ورغم تقلبات الأحوال والدول على هذه الأرض إلّا أنّ فترات الازدهار والاستقرار كانت الأقل, وكان السبب _من وجهة نظري وبعد تأمل_ أن اليمنيين لم يحظوا بحاكم رشيد وعادل في معظم فترات تاريخهم, حتى يُجمِعوا ويجتمعوا معه!
سببٌ آخر للصراع وتفجّره طرأ منذ نهاية القرن الثالث الهجري مع مجيئ الامام الهادي لليمن ..ولقد كان اليمنيون ضحايا الصراع بين الائمّة أنفسهم أحفاد الهادي نفسه من أجل الحكم . . ثم أنهم أصبحوا ضحايا الصراع بين الائمّة المتعاقبين كطرف والدول اليمنية المتعاقبة كطرفٍ آخر! وهو الصراع الذي يبدو مستمرا حتى هذه اللحظة للاسف. . ولعل الحوثيين اليوم هم خلاصة هذه القصة الدامية الطويلة.. بدايةً ونهاية. .سببا ونتيجة رغم تغيرات العالم وشعوبه. .وتقدم الانسان ووصوله للقمر والمريخ!
الطابع المذهبي والسلالي للحكم كان المشكلة. .وقد فجّرَ اليمن وما يزال! ..وهذه هي الخلاصة!
وأشرق فجر سبتمبر 1962 مضيئا بأحلام الشعب! الأحلام التي حُرِم منها خلال عهودٍ طويلة,.. ولعلَّ الواجب أن أتساءل هنا.. إلى أي مدى تحققت تلك الأحلام والأهداف خلال الخمسين عاما الماضية؟ لقد كان الميراث صعبا, ولذلك أقول وبصراحة أن إعلان الجمهورية بحد ذاته, وهو الذي يتيح لأي مواطن أو مواطنة بالانتخاب أن يصبح رئيسا للجمهورية لمدة محددة بالقانون هو ثورة حقيقية, وهو أساس دولة النظام والقانون, كما أن القانون فوق الجميع, وهو ما سيجمع كل أطياف الشعب, ويلم شعثه, ويضع البلسم على الجرح العميق, القديم الجديد!
الحاكم الرشيد أو الرئيس _بلغة العصر_ الذي يحكمه القانون والدستور هو محور استقرار وازدهار اليمن.
خمسون عاما! لكن علينا أن نتذكر دائما أن ثلثي هذه الخمسين كان مخطوفا مختطفا! أو لعلّه كذلك! والتاريخ كما الأشخاص, له وعليه, فمثلا لا يمكن أن نحسب الفتنة الكبرى في صدر الدولة الإسلامية على الإسلام! أو مقتل الخليفة عثمان على الصحابة!
وكذلك سبتمبر النقيّ البهيّ بثوّاره الشباب, والأحداث التي توالت, والعهود التي تتالت! وصولا إلى اختطاف ثروات البلاد ومقدّراتها.. وجعْلِها رهينةً لدى أيّة قوّة عالمية يمكن أن تدفع أو تحمي فقط كي يبقى كرسي الحكم! رغم أن الكرسي أصبح على قدمٍ واحدة!
* * *
لا يمكن القول أن اللحظة البائسة التي نعيشها الآن هي من بنات أفكار سبتمبر! وكما أن لكل ثورةٍ أبطالها, فلها أيضا سارقوها ومدّعوها بل وخائنوها أو حتى بائعوها! رغم ذلك فإننا يجب ألّا ننسى أن الجزيرة العربية برمّتها تغيّرت _وليس اليمن فحسب_ بفعل اندلاع ثورة سبتمبر اليمنية, فأوّلُ الغيث كان استقلال جنوب الوطن, تلا ذلك "موجات التغيير" في السعودية ودول الخليج الأخرى, وقد أكد ذلك الأمير خالد بن سلطان بن عبدالعزيز آل سعود في مذكراته وذكرياته عن ستينيات القرن العشرين وتأثير الثورة اليمنية, قالها تصريحا لا تلميحا عن التنمية والتعليم والتغيير بسبب ثورة اليمن, والدور المصري المؤثر والفاعل, والموحي, حتى أنّ مجموعةً من أمراء الأسرة المالكة أعلنت إنشقاقها تحت اسم "الأمراء الأحرار" !! وكان على رأس هذه المجموعة الثائرة الأمير طلال بن عبدالعزيز, وإثر ذلك أُطيح بالملك سعود الذي وصل صنعاء وأعلن تمرده! وخَلَفَهُ بعد ذلك الملك فيصل بن عبدالعزيز الأكثر حنكةً وذكاء.
ولأنّ التاريخ يعيد نفسه أحيانا للتأكيد, ولو بصورةٍ مختلفة, فإن ثورة ربيع اليمن 2011 المتّقدة بشبابها وطموحها نحو التغيير هزّت الجزيرة العربية مرةً أخرى! فإذا بالإخوة في الخليج جميعه يعيدون حساباتهم في طرائق الحكم والشورى والانتخابات وحتى أنه تم اعتماد مرتّب شهري لكل مواطن عاطل عن العمل!.. وهكذا الدنيا,.. اللهب هنا والضوء هناك! حريق الدم هنا, والتغيير على مهل ورويّة هناك!
* * *
نحن ننسى أحيانا أهميّة التراكم في الصيرورة التاريخية للقضايا والأحداث,ومسارات التحول, وننسى بقصدٍ أحيانا _ولكلٍ أسبابه في النسيان!_ أجمل وأروع إنجازاتنا كشعب, وأيامنا كأعمار, .. البعض ينسى قاصدا لمجرّد أنه لم يكن هناك! فهو يعتقد أن التاريخ لا يبدأ إلا من تحت أخمص قدمه! دون تقدير لتضحيات الملايين, عبر أجيال من البشر, وجبالٍ من الآلام والأحلام والأحزان, والصبر والمصابرة والانتظار في سبيل التغيير والتنوير, والمستقبل الأفضل والأجمل.
خُذْ مثلا ما هو حادثٌ في مصر الآن,.. أنا أزعم أن ثورة 25 يناير 2011 تناسلت من ثورة 23 يوليو 1952, فلولا جمهورية جمال عبدالناصر ابن الرجل البسيط ساعي البريد, لَمَا وصَلَت إلى محمد مرسي العياط الفلاح المنتخب من الشعب عبر دستور 23 يوليو الجمهوري! وأظن أن على مرسي أن يتذكر ذلك دائما! لكن ذلك لن يمنعنا من القول أن الكثير من رؤساء الجمهوريات الذين وصلوا إلى السلطة في العالم العربي خلال نصف قرن مضى خيبوا ظن شعوبهم, رغم جذورهم الشعبية الفقيرة, فمعظمهم تجبّر وتكبّر, وقَتَل ونَهَب, وبالنسبة لليمن فإننا ننسى كالعادة أن القاضي عبدالرحمن الإرياني كان أول رئيس جمهورية في العالم الثالث كله ترك السلطة راضيا نظيفا نقيا من القتل والنهب! ولكن كالعادة لم يلتفت كثيرون لمبادرته, ولم ينصفه أحد بعد أن تم تغليب الهوى الحزبي على الحق والعدل!
في اليمن أيضا كما مصر, ما كان لثورة 14 اكتوبر 1963 أن تحدث دون أن يسبقها بركان 26 سبتمبر 1962, والتي سبقتها ثورة 1948 النخبوية, وما كان للوحدة في 1990 أن تحدث دون أن يسبقها قيام نظام جمهوري في كلا الشطرين..
وما كان لثورة ربيع اليمن 2011 أن تُعْلِنَ شعار الدولة المدنية الحديثة دون أن تسبقها كل عذابات وأحلام التغيير والاستقلال والتعددية السياسية ومخرجات الجامعات خلال خمسين عاما!
وهكذا.. ثورةٌ تَلِدُ أخرى!
أو ثورةٌ حبلى بأخرى!
وفي الواقع, أن اليمن كان يحتاج لألف ثورة وليس لثورةٍ واحدة! فميراث التخلف والجهل كان مطبقا على كل شيء,.. كل شيء!
ولذلك فإنه كان من السهل استغفال الشعب في أوّل فرصةٍ لرئيس يحاول أن يصبح ملكا عبر ثلث قرن من الاستمرار في الحكم! ودون أن يدري فقد أصبح ملكا بالفعل كي تنتكس الأحلام والأعلام!
فإذا صحّ أن الثورات تأكل أبناءها في كل الدنيا, فإن اليمنيين هم الذين يأكلون الثورات حيّةً طريّة! اليمنيون يأكلون كل شيء.. الثورات والثيران وحتى الجراد!
ولم يكن ذلك ذنب ثورة سبتمبر, فأبطالها الحقيقيون غاب معظمهم عن مجريات الأحداث خلال الثلاثين سنةٍ الماضية, بعد أن أصبح النهب ثقافةً سائدة, وهو ما لن تبرأ منه البلاد إلّا بعناء! وبعد حين! بعد أن تم مسخ كل شعار , واستهلاك كل قيمة ومعنى!
فمثلا, النظام الجمهوري تحول إلى التوريث الجمهوري, وحلم الوحدة أصبح كابوس الوحدة, والدستور أصبح مجرّد طبخة, لخمس سنوات في خمس أو سبع في سبع, والعودة خمس في خمس, ولكن الله ستر! حتى ثورة الشباب التي تحولت إلى ثورة شعب, لم تسلم من جشع الجراد ونقيق الضفادع الخضراء والصفراء السامّة والقاتلة!
لكن انتكاس الثورات يحدث في معظم دول العالم.. حتى الثورة الفرنسية أصبحت مُلكا عضوضا بعد قيامها بفترة وعلى يد نابليون! قبل أن تستأنف مسيرتها الباهرة القاهرة!
* * *
ثمَّة وجوهٌ سبتمبرية رائعةٌ لا تُنسى, تنضح بالشجاعة والثقافة والنقاء,..
إشراقة علي عبدالمغني, وأحزان عبدالله اللقية, وشجاعة صالح الرحبي, وإطلالة علي بن علي الرويشان, وحكمة أحمد ناصر القردعي, وأستاذيّة أحمد المروني, وعِلْم وخِبرة عبدالرحمن الإرياني, وحنكة القاضي عبدالسلام صبرة, والثنائي النادر القاضي الزبيري والأستاذ النعمان.. أرواحٌ عظيمةٌ معظمها غادر الحياة قبل الأوان.. وقبل أن تكتمل سنتان من عمر الثورة! لكنني أزعم أنني رأيت هؤلاء الأبطال في وجوه شباب ثورة ربيع اليمن 2011,.. رأيتهم عيانا, وخبرتهم تجربةً وثقافة, وتيقّنتُ أن التاريخ ينسابُ من بين أصابعهم المجرّحة النازفة, وأنّ ثورةً تلدُ أخرى, وهكذا كل ثورات العالم,.. لا أحد في عالمنا يتنكّر لدماءٍ سالت من أجل التغيير, فما يزال الفرنسيون يحتفلون بثورتهم والعالم معهم بعد عقودٍ ومئات من السنين,.. صحيحٌ أنها جمهوريات فرنسية خمس متتالية عبر زمن طويل, ورغم ذلك, ما تزال الثورة الفرنسية أمّ الثورات لدى الفرنسيين وفي العالم كلّه, .. كذلك ما يزال الشعب الأمريكي وبعد مئات من السنين أيضا يحتفل بثورته كل عام, رغم حروب الوحدة بين الشمال والجنوب في القرن التاسع عشر, وعبر طريقٍ طويل ومضنٍ صوب التقدم والتغيير, وكرامة الإنسان ورفاهيته,.. وصولا إلى التغيير النوعي ولأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية بأن يحكم البيت الأبيض رجلٌ أسود! وأن يدير الامبراطورية الكبرى رجلٌ ملوّنٌ قَدِم والده المباشر من كينيا الإفريقية! وما كان لذلك أن يحدث قبل عشرين سنةٍ فقط! لكنه الشعب الأمريكي الذي تفوّق في هذا المنحى حتى على الشعوب الأوروبية.
العالم يتغيّر, لكنه يظل يدور حول الشمس! وليس ثمّة من شمسٍ في تاريخنا المعاصر أكثر تأثيرا وتغييرا من شمس ثورة سبتمبر 1962, باعتبارها طاقةً هائلة للتغيير والتغيّر, وبوابةً عَبَرَتْ بلادٌ عبْرها إلى فضاءٍ جديد, وعالمٍ يتجدد, مهما بدا بؤسُ اللحظة خانقا.. ويأس البُرْهة قاتلا .. التاريخ يقول ذلك,.. والساحات الثائرة ما تزال فوّارةً بالأمل, موّارةً بالتغيير.
أخيراً.. ماذا يبقى من ثورة سبتمبر؟
يبقى أنها كانت البداية الأقوى في العصر الحديث للحلم بوطن جديد, والأهم أنها زرعت في الوجدان الجمعي اليمني إمكانية تحقيق هذا الحلم رغم قطّاع الطرق وقاتلي الأحلام..
ويبقى أنها ستظلّ الفوّهة الأمّ لبركان التغيير,.. وحتى هذه اللحظة فإن كل كرات النار التي تدحرجت عبر العقود الماضية, وما تزال, لم تكن إلّا من تلك الفوّهة المضيئة في تلك السنة, في ذلك الشهر, في ذلك اليوم.. في تلك الساعة !