2015-10-15 الساعة 06:23م
بين احلام فوكوياما وكوابيس هنتنجتون،،، اليمنيون.. مقاتلون في سبيل الهويات القاتلة
.......................................
مع انهيار الاتحاد السوفيتي بدأت تظهر التصورات لما سيكون عليه عالم ما بعد الحرب البارده. من بين ركام التصورات اشتهرت رؤيتان متناقضتان للعالم الجديد.
قدم فرانسيس فوكوياما رؤيته المتفائلة لعالم سيشهد نهاية الصراعات والأحداث الكبرى، وتتجه فيه كل الشعوب لتبني النموذج الليبرالي الرأسمالي. إنه زمن نهاية التاريخ و"نهاية الايديولوجيا" حيث تختفي كل الأيديولوجيات الكبرى وستبقى فقط الأيديولوجيا التي أثبتت قدرتها على التجدد والتصحيح والصمود: الرأسمالية الليبرالية باعتبارها "نهاية التطور الأيديولوجي للإنسان" .
من الولايات المتحدة أيضا جاءت الرؤية المناقضة لصموئيل هنتنجتون. وكانت رؤيا كابوسية ترى أن سقوط الأيديولوجيات الكبرى، التي حكمت عالم الحرب الباردة، ستؤدي حسب هنتنجتون إلى بعث الصراعات حول الهويات الثقافية والعرقية. وستدور الصراعات حول الهوية والثقافة لا حول الأيديولوجيا والمصلحة.
كانت مآسي التطهير العرقي في البوسنة والهرسك، ومذابح التوتسي والهوتو في رواندا، تشير من بعيد إلى أن رؤيا هنتجتون الكابوسية ليست مجرد خيال. لكن بقية العالم كان يمضي فيما بدا أنه السيناريو المتفائل لفوكوياما : العالم المتناسق والمتناغم الذي يمضي نحو الحرية الفردية والسياسية والاقتصادية.
خلال الخمسة عشر عاماً الأولى لحقبة ما بعد الحرب الباردة، أصبح في العالم 141 نظاماً ديمقراطياً في العالم. كان أغلبها أيضا يسير في نهج الاقتصاد الحر، وأصبحت ثلاثة أخماس دول العالم تتبنى الديمقراطية من ضمنها 90% من دول أمريكا اللاتينية والكاريبي و75% الدول الشيوعية السابقة و40% من دول آسيا وافريقيا.
كانت اليمن تسير في نفس الطريق منذ 1990 وحتى 2004. ورغم الحرب الأهلية في 1994 إلا أن التجربة الديمقراطية الوليدة استمرت، وتم تقييمها بصفتها أفضل تجربة ديمقراطية في الجزيرة العربية. في 1995 تم الاتجاه رسميا نحو اقتصاد السوق والخصخصة وتحرير العملة. لم تكن الديمقراطية اليمنية مثالية لكن جميع اللاعبين السياسيين اتفقوا على أن العملية السياسية هي الطريق الوحيد للتغيير والحكم، وأن الانتماء الوطني هو أساس الحياة العامة.
كان ظل فوكوياما يبتسم في أغلب أرجاء اليمن، والعالم الحر يحتفل بالديمقراطية الوليدة في اليمن. لكن في 2004 بدأ شبح هنتجتون يتحرك في صعدة. كانت الحركة الحوثية التي بدأت تتشكل من طلبة العلم الديني تحت اسم "الشباب المؤمن"، تتحول تدريجيا إلى أول هوية طائفية مغلقة. كانوا يعيدون اكتشاف هوياتهم القديمة وراياتهم القديمة ويجهزون أنفسهم للصراع مع أعداء جدد لكنهم في أحوال كثيرة أعداء قدامى!
بعد ثلاث حروب فاشلة قادتها الحكومة ضد الحركة الحوثية، بدأ الجنوب يتململ تحت وقع هزيمة الدولة أمام جماعة صغيرة، وباندفاع كبير يغذية الغضب من تهميش ونهب الجنوب بعد حرب 1994. الاحتجاجات والمسيرات التي بدأت بمطالب سياسية وخدماتية ما لبثت بسب تجاهل النظام وقمعه، أن تحولت إلى مطالب تتعلق بالهوية "استعادة الدولة الجنوبية والهوية الجنوبية". بالإضافة إلى هذا، توسعت قاعدة الإرهاب وأصبحت اليمن موطن أقوى فرع للقاعدة في العالم بعد أفغانستان، لتضيف القاعدة بعدا دمويا لصراع الهويات القادم بلا هوادة.
تحدث فوكوياما بلهجة نبوية عن عالم لن يكون فيه " مجال لمزيد من التقدم في مجال المبادىء والانظمة الاساسية وذك لان كافة المسائل الكبيرة حقاً ستكون قد حلت..". لكن كل المسائل التي ظنت البشرية أنها قد حلتها عادت من جديد، لتصبح موضوع شك وتساؤل ورفض بما فيها قضايا الحرية، المساواة والمواطنة التي ظننا أنها حسمت للأبد. كانت أحداث 11 سبتمبر 2001 أقوى صرخة تقول أن العالم يمضي نحو "القتال من أجل الهوية" لا نحو "التعاون من أجل المصلحة ".
انتصرت كوابيس هنتنجتون على أحلام فوكوياما
لكن هنتجتون اخطأ في نقطتين مهمتين. النقطة الأولى: أن عالم ما بعد الحرب الباردة لم يكن عالم "صراع الحضارات"، وإنما عالم "صراع الهويات" داخل الحضارة الواحدة. النقطة الثانية: لم ينتبه أن الحضارة التي ستعيش ذروة صراع الهويات هي الحضارة الإسلامية، وأن المجموعة الثقافية التي ستشكل بؤرة بركان الهويات المنفجر والمشتعل هي المجموعة الثقافية المعروفة بالعالم العربي.
وفي عمق العالم العربي هناك بلد اسمها اليمن، كانت حتى النصف الثاني من 2014 تتخيل أنها ستمضي في طريق بناء الدولة المدنية، ووضع أسس الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة. لكن أشباح عالم "صراع الهويات" دفعتها نحو صراع هويات معقد يحضر فيه السياسي والطائفي والجهوي، وتتداخل فيه معارك الماضي والحاضر وسيوف القرن السابع مع صواريخ القرن الحادي والعشرين .
لم ينته التاريخ في اليمن لكن ماضي الهويات والصراعات عاد لينشر سيوفه ورماحه بين الناس، ليتحولوا إلى مقاتلين في سبيل الهويات القاتلة.