2016-06-28 الساعة 07:48م (يمن سكاي - الواقع اليمني)
لما أفصح أوباما أنه اتخذ سياسة نأي جيش بلاده عن الصراع في المنطقة وتخفُّفَه من أعباء كل ما يدور عند العرب، ذهب كثيرون لتصديق هذا العفوية التي باتت تعرف “بمبدأ أوباما”، لكن سرعات ما عُرف أن ذلك المبدأ ليس خروج أمريكا من الفاعلية بقدر ما أظهر خطةً جديدة وممنهجة لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط.
تركت الولايات المتحدة الحضور المباشر في المنطقة لكي تمنح إيران قراراً فاعلاً والمليشيات الشيعية حضوراً عملياً في المنطقة، وفي الوقت نفسه ما زالت تبقي قدراً من تدخلاتها السياسية والعسكرية المتناقضة تماماً كما يحدث في اليمن على وجه التحديد حين تدعم التحالفَ العربي استخبارياً وتتماها مع جماعة الحوثي حلفاءِ إيران كما لو أن هذه الجماعة رضيعٌ في أحضان السياسية الجديدة لأمريكا.
تناقض أمريكي سياسياً:
ومنذ أن سقطت العاصمة صنعاء بيد الحوثيين في 21 سبتمبر 2014م، لم يكن للحوثيين وحليفهم الرئيس السابق علي صالح أن يدخلوها إلاّ بعد أن وجدوا ضوءاً أخضر من المجتمع الدولي وعلى رأسه أمريكا، وهو ما عبر عنه ناطق الحوثيين محمد عبد السلام حينها أن دخولهم صنعاء كان بالتنسيق مع المجتمع الدولي. في وقتها لم تعلن أي سفارة أجنبية إجلاء دبلوماسيها بعد أن سيطرت ميليشيا مسلحة على جميع الوزارات المدنية والعسكرية.
وبعد أن تحسست دول المنطقة، وتحديداً السعودية الخطر قررت توجيه ضربة عسكرية ضد معسكرات الحوثي وصالح لإعادة التوازن على الأرض، وتمكنت، في ما بعد، من انتزاع قرار من مجلس الأمن يدين الحوثي وصالح ويقضي بخروج ميليشياتهم من المدن بما فيها العاصمة صنعاء.
أمريكا واجهت دبلوماسية المملكة ووضعتها تحت الأمر الواقع باعتبار أن سقوط اليمن بيد حلفاء إيران هو تهديد مباشر لأمنها القومي، والمعركة لم تعد معركة بين حكومة شرعية وجماعة الحوثي بقدر ما أصبحت معركة كسر عظم بين إيران والسعودية مباشرة.
وبعد مرور عام من الحرب لم يَرشَح عن قرارات مجلس الأمن أي ضغوطات عملية على الحوثيين وظهر موقف أمريكا أكثر تناقضاً مصبوغاً بلؤم سياسي حين تُعلن دعمها للتحالف استخبارياً بينما تبدو متماهية سياسياً مع الحوثيين مع تلكؤ واضح في إصدار أي ضغوطات عبر مجلس الأمن بعد مرور عام من قرار 2216 الذي يدين الحوثيين.
وقد دخلت مشاورات الكويت بين وفد الحكومة ووفد الحوثي وصالح اليوم الـ 50 دون أي تقدم واضح نتيجة رفض وفد الحوثي وصالح النقاش على مرجعية قرار مجلس الأمن، في المقابل ترفض الأمم المتحدة الإعلان عن عرقلة الحوثيين للمشاورات في وقت تستمر أمريكا في بلع لسانها والاكتفاء بدعوة الأطراف اليمنية التوصل إلى حل ينهي الحرب.
يقول رئيس المستشارين المرافق لوفد الحكومة نصر طه مصطفى في أكثر من مرة: إن المجتمع الدولي يُمارس ضغوطاً على وفد الحكومة ليقبل بالتنازل أكثر وتمرير رغباتٍ تصب في صالح الحوثيين عن طريق الحكومة، وخارجةٍ عن إطار قرار مجلس الأمن. بمعنى أن هناك رغبة غربية أمريكية روسية لتقنين انقلاب الحوثيين وشرعنته ولكن عن طريق الحكومة اليمنية.
وسبق أن أعلن وفد الحكومة تعليق مشاركته في المشاورات ولكن تأتي على الفور ضغوطات أمريكية واتصالات للعودة رغم انكشاف عرقلة الحوثيين للمشاورات.
وعلى هذا النحو لا يبدو الأمر ملتبساً في تناقض الدور الأمريكي في اليمن، بل بدى واضحاً أنها تسعى وما زالت في استراتيجية تفكيك موقف الحكومة المتمسك بقرار مجلس الأمن 2216؛ هدفه الإبقاء على الحوثيين كمشروع فاعل في قادم الأيام في صنع القرار اليمني.
هذا التوجه الأمريكي الخطير ليس مجرد انقلاب على الحكومة وإحلال الحوثيين؛ بل انقلاب على السعودية نفسها، لأنها هي من كانت وراء انتزاع قرار مجلس الأمن ضد الحوثي وصالح، وهي من ستصلها شضايا الحوثيين في حال الإبقاء على مخالب الحوثيين العسكرية وتوقف الحرب في منتصف الطريق.
على مستوى الحكومة، في بعض تصرفات أمريكا في اليمن تبدو كما لو أنها تريد إحراج الحكومة الشرعية والسعودية في الوقت نفسه بطريقة أشبه بابتزاز، وحين تريد أمريكا تهشيم موقف آخر تضرب على وتر “الإرهاب”، تماماً كما فعلت مع الحكومة حين اتهمت في 20 مايو المنصرم وزارة الخزانة الأمريكية محافظ محافظة البيضاء نايف القيسي بأنه يقوم بدعم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب. في حين لم تتهم أمريكا حتى اللحظة جماعة الحوثي بالإرهاب، رغم ممارستها له على اليمنيين، إلاّ أنها تريد إظهار الحكومة بشكل متهم وضعيف وتقديم الحوثيين كجماعة خلاقة ومنسجمة مع مشروع الحرب على “الإرهاب”، وهو ما أفصحت عنه أمريكا عبر منسق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية “جاستين سايبيريل” حين قال في 2 يونيو الماضي: “إن جماعة (أنصار الله) الحوثي ليست منظمة إرهابية، وإنما يعدُّون طرفاً في النزاع”.
على هذا النحو لا تبدو أمريكا فيما عرف “بمبدأ أوباما” متخففة بنفسها عسكرياً وسياسياً في شأن المنطقة بل هو توجه مدروس وممنهج وهذا التناقض المفضوح في اليمن ليس سوى تجسيداً لما يحدث عملياً في سوريا والعراق، أيضاً.
تناغم عسكري أمريكي مع الحوثيين:
على المستوى العسكري يبدو بكل وضوح عدم رغبة أمريكا انتزاعَ مساحات جديدةٍ من قبضة الحوثيين لا سيما العاصمة صنعاء وحين تكون هذه الرغبة فاعلة فإنها تبقي قوة للحوثيين في أي تفاهمات سياسية في المقابل تضع الحكومة في الموقف الأضعف.
تعرف أمريكا والحوثيون أنفسهم أن استعادة العاصمة يعني انتهاء مشروع الانقلاب وتقلص فاعلية الحوثيين؛ ولهذا حاولت القوات الحكومية وبدفع واسع من قوات التحالف التوغل إلى صنعاء حتى تمكنت من الوصول إلى مشارف العاصمة، وهي معركة الغرض منها الضغط على تحالف الانقلاب وإخضاعهم للحوار السياسي، تماماً كما يفعل الحوثيون في الحرب على الحدود مع القوات السعودية لانتزاع حضور سياسي وضغوط على المملكة.
لكن أمريكا والمجتمع الدولي تدخلا في حرب صنعاء وصمتا عن حرب الحدود مع المملكة، إذ تم الوقوف ضد أي عمل عسكري واسع للتحالف العربي والجيش ينوي استعادة العاصمة، وهو ما كشف عنه وزير الإعلام اليمني عبد المجيد قباطي مطلع يونيو الماضي حين قال: “إن قوات الجيش مُنعت من دخول صنعاء من قبل المجتمع الدولي وبالذات دول دائمة العضوية في مجلس الأمن بدعوى أن الحوثيين سينصاعون للقرارات الأممية”.
وها هي جماعة الحوثي حتى اللحظة لم تنصع لقرار مجلس الأمن ولكن الذي يحدث هو تسوية ستقدمها الأمم المتحدة وبرعاية أمريكية روسية في المقام الأول تقضي بالالتفاف على القرار 2216 وإن بدت أنها لا تتناقض معه.
وبالتوازي مع هذا الانحياز للحوثيين عسكرياً في أهم معركة وهي استعادة العاصمة صنعاء فهي – أي أمريكا – حاضرة في معارك الحوثيين في محافظة البيضاء، وسط اليمن. المحافظة التي ألتهمت مسلحي الحوثي الأكثر تدريباً لدى الجماعة منذ إعلانهم الحرب على هذه المحافظة في أكتوبر 2014م عقب سيطرتهم على العاصمة.
هذه المحافظة تعتقد جماعة الحوثي بأن أهلها “دواعش” وهو المنطق والمعتقد نفسه الذي يطلقه الحشد الشعبي الطائفي المدعوم من إيران على أهالي الفلوجة في العراق، وحقدهم عليها حتى على حجارها. وبذات التوجه ظهر الموقف الأمريكي؛ وكأنه متناغم مع الحوثيين تجاه هذه المحافظة فشن طيران دون طيار أكثر من مرة هجوماً على أفراد المقاومة الشعبية المؤيدة للشرعية كُلما اشتدت ضراوة الحرب على الحوثيين.
وهي المحافظة نفسه التي اتهمت الخزانة الأمريكية محافظها نائف القيسي ومن قبله السياسي وأمين عام حزب الرشاد عبد الوهاب الحميقاني، وهو من أبناء هذه المحافظة، بدعمهم لـ “الإرهاب” رغم أنهما قياديان في المقاومة الشعبية التي تؤيد الشرعية ويعملان مع الحكومة بطريقة رسمية.
ولا يبدو واضحاً من هذا الاستهداف الممنهج الذي تقوم به أمريكا عسكرياً وسياسياً لمدينة البيضاء سوى محاولة إضعاف مقاومة هذه المدينة وكسرها أمام الحوثيين؛ لأنها تمثل خزاناً بشرياً سُنياً صلباً أمام المشروع الحوثي الممثل لمشروع إيران في اليمن.
ترويض الحوثيين:
بهذا التوجه، أمريكا تعيد سيناريو العراق في اليمن وتعيد الخطأ ذاته وبالأدوات نفسها في ما يتعلق بتسُّيد الشيعة وتهميش البيئة السنية حين تسعى إلى ترويض ميليشيا طائفية في اليمن على اعتبارات مصالحها وأمنها لا على اعتبارات مصلحة مجتمع ومصير شعب.
قد يذهب البعض للتقليل من هذا التجسيد للخطر في اليمن على اعتبار أن أمريكا والمجتمع الدولي لا يريدون سوى ترويض الحوثيين وإخضاعهم للتحول إلى العمل السياسي.
الأمر ليس كذلك، إذ إن المشكلة في سعي أمريكا لترويض الحوثيين ليست بجعلهم حزباً سياسياً فقط، بل جماعةً سياسية تشارك في إدارة البلد مع بقائها كتلة عقائدية متمسكة بذهنيات الصراع من أجل الطائفة.
إضافة إلى أن المُشكل الاستراتيجي في إبقاء الحوثيين ككتلة سياسية وطائفية في الوقت نفسه ليس لأنهم مشروع محلي فحسب؛ بل يمثلون امتداداً لمشروع إيراني يسعى لالتهام الجزيرة العربية والسيطرة على مكة والمدينة.
هذا الحجم من الخطر ليس مجرد كلام نظري بل أصبحت ظاهرة عملية تقودها إيران وتدفع به أمريكا بالتزامن مع الحديث عن خريطة شرق أوسط جديد، لتقسيم المقسم وتجزيء المجزأ إلى دويلات صغيرة هدفها إضعاف مشروع الحضارة الإسلامية السنية.