في مثل هذا اليوم منذ اربعة وخمسين عاما أغمض الشاعر الشهيد محمد محمود الزبيري عينه الإغماضة الأخيرة وفي نفسه ألم طافح على وطن تتوالى مصارع الابتسامات فيه بين متربص حاقد يروم البطش به وبين منتفع أناني اتخذ الثورة طريقا للثروة فراح يطعن في خاصرة الثورة بتفريغها من مبادئها التي ضحت من أجلها قوافل الشهداء، وبإبعاد كل الأصوات المخلصة لها من دوائر القرار الثوري سحلا واعتقالا ونفيا.
لقد كانت يمن الثورة هي الحلم الجميل الذي ظل على مدى عقود من الزمن حاضرا لدى الشهيد الزبيري نضالا وفكرا ومعنى شعريا يفتح أمامه نوافذ الأمل مشرعة، في أن يرى بلاده تسير في ركب الحرية وتمارس حقها الإلهي في الحياة الحرة الكريمة بعيدا عن مطرقة الظلم والاستبداد وسندان الفاقة والعوز، وقد بذل في سبيل تحقيق هذا الحلم زهرة شابه، وضحى بكل غال، وواجه برباطة جأش من الأهوال ما يوهن المبادئ ويضعف الهمم ويبعث الخور والوهن، لكنه وهو المفكر الواعي والشاعر العنيد ماكان له أن يرفع الراية البيضاء وأن يتخلّى عن دور ريادي وضعته أقداره فيه ثائرا ومصلحا كان من حقه بعد نجاح الثورة أن يكون لسانها الملهم وأباها الروحي لكن القوى المتربصة بالثورة يومها اجتمعت بمختلف مواقفها على إسكاته وكأن عمره الذي توزّعته وحشة المنافي وظلام المعتقلات لم يكن ليشفع له فقتل مغدورا وبمقتله انطوى مشروع الدولة اليمنية الحديثة.
لقد أدرك الزبيري مبكرا ما أصاب مسيرة الثورة من انحراف المسلك وخطأ التوجه، فأعلن موقفه الرافض لذلك برباطة جأش وبصوت صادع، ولعل سينيته الشهيرة التي كانت آخر نص شعري يكتبه الشاعر الشهيد ومطلعها:
هذا هو السيف والميدان والفرسُ
واليوم من أمسه الرجعي ينبجسُ
كانت أصدق دليل على موقفه المناهض لتحويل الثورة عن مسارها الذي رسمه روادها العظماء، وفيها يصدع بصوت واضح لا مداهنة فيه:
كـــأن وجـــه الــدجـى مِـــرآة كـارثـة
يـرتـد فـيـها لـنـا الـمـاضي ويـنـعكسُ
كـفى خـداعا فـعين الـشعب صـاحبة
والـناس قـد سـئموا الرؤيا وقد يئسوا
وانـــتــمُ طــبــعـة لــلـظـلـم ثــانــيـة
تـداركـت كــل مـاقـد أهـمـلوا ونـسوا
إن شـئتم فـاقتلوا مـن ليس يعجبكم
أو مــن تــرون لـه فـي قُـربِكم دَنَـسُ
ُولم يكتف الشاعر الشهيد بقصائده وخطبه في نقد هذا التوجه وإنما عمد وهو الزعيم الشعبي إلى تبني رأي عام مناهض ظل يتنامى حتى قتل مغدورا مخذولا.
نعم لقد قتل الزبيري مخذولا خذلانا عظيما، فمشروعه الذي أراد من خلاله تصحيح مسار الثورة من جهة وجمع اليمنيين بمختلف توجهاتهم على كلمة سواء هذا المشروع خفت وتلاشى ولم تقم له قائمة بعد استشهاد الزبيري، وفي ذلك مؤشر على عبثية الأحداث السياسية التي توالت في تلك الفترة، حيث تبلورت المشاريع الصغيرة، وتفشى صراع المصالح حتى وصلت القوى المحسوبة على الثورة إلى الصدام المسلح، وهو الأمر الذي حذر منه الزبيري كثيرا ودعا إلى تلافيه منذ فترة مبكرة بتبنيه لمشروع جامع مانع كان يفترض أن يستمر حتى بعد استشهاد الزبيري باعتباره سفينة النجاة للثورة في بحر شديد العواصف متلاطم الأمواج لكن هذا المشروع وئد في مهده مثله في ذلك مثل عشرات الأحلام الجميلة التي توأد في مهدها في بلاد يسمى اليمن السعيد.