2015-12-30 الساعة 10:05م (يمن سكاي - عباس الضالعي)
تأتي الذكرى الثامنة لرحيل حكيم اليمن الشيخ عبدالله بن حسين الاحمر رحمه الله واليمن يعاني من ويلات الصراع والاحتراب والتفكك ، وهذا الوضع يجعلنا نتوقف عن دور الراحل في خدمة اليمن منذ طفولته وهو يصارع الاهوال ويواجه المحن التي كانت تنزل على اليمن وتحمل مسئوليته تجاه الاحداث بجداره وثبات وتغلب عليها محتفظا بمبادئه وثوابته الوطنية ، معتمدا على عقله الراجح وحكمته وخبرته ، مدعوما على ارضيته الصلبة " قبيلة حاشد " الذي يعد الراحل قلبها الكبير ونبضها الذي لايتوقف ..
الحديث عن الشيخ عبدالله الاحمر وادواره الوطنية ومواقفه السياسية والنضالية والاجتماعية وعن علاقاته الداخلية والعربية والاقليمية حديث طويل ويحتاج الى مجلدات نتيجة لمعاصرته مراحل ومحطات هامة وحساسة من الكفاح الى الثورة الى الدولة وتثبيت النظام ، فالحديث عن الراحل هو حديث عن تاريخ طويل تكلل بالتعقيدات والازمات والصراعات وكان هو حاضرا وشاهدا وفاعلا في توفير الحلول وسد الثغرات واصلاح ذات البين سواء بما يتعلق بطبقة الحكم او المكونات الاجتماعية على مستوى اليمن ، الشيخ الراحل عبدالله الاحمر لم يكون مجرد شيخ مشائخ لقبيلة حاشد وشيخ مشائخ اليمن ، بل كان الرجل المحوري الذي تلتقي عنده كل الاطراف وتتخذ منه مرتكزا للاستعانة به وبحكمته وحنكته ووسطيته واخلاصه بالعمل على حل كل القضايا وتذويب العقد التي تنطلق منها المشاكل والخلافات ..
على المستوى السياسي كان الشيخ عبدالله الاحمر رحمه الله مرجعية للحاكم والمحكوم ، وصمام امان الدولة ، عمل على ترسيخ الدولة والقانون وهو اول من دعى الى اصدار دستور للجمهورية بعد الثورة ، وقد نجح في ذلك ، وهو اول من وقف امام الانحراف الذي اصاب القوى الجمهورية وقاوم ذلك الانحراف ، وكان سندا قويا للنظام الجمهوري مقارعا انحرافات الحكام ، عمل على ترسيخ النظام والدولة والوحدة والشواهد هنا والمحطات كثيرة لايسعنا ذكرها ..
اما على المستوى الاجتماعي فالراحل كان اكثر الناس معرفة بجغرافية اليمن ومناطقها وطبائع وعادات اهلها ولديه الالمام الكامل بتاريخ القبائل اليمنية واقيالها ، وكان يمتاز برجاحة العقل والرأي وسعة الصدر ومنهجيته في قول الحق وقدرته على الصبر والتحمل لمواجهة المواقف العصيبة ، كان اقترابه من الناس وهموهم هو برنامج حياته الذي لم ينقطع ولم يتأثر بأي متغيرات ، وهذا هو الذي جعل منه رجل القلبيلة الاول ومرجعها وحول منزله الى قبلية لليمنيين بمختلف توجهاتهم ومذاهبهم ومناطقهم ..
وهنا اورد شهادة لواحد من الذين رافقوه لفترة طويلة وهو الاستاذ عبدالقوي القيسي مدير مكتبه وهي شهادة نابعة من معايشته للراحل ادونها هنا كما وردت في كتاب شهادات في رحيل حكيم اليمن ( وكان رحمه الله يقدم الفقراء من أهل تهامه على غيرهم من الزوار وقد لاحظت ذلك مراراً وتكراراً ، فما قدم شخص من تهامه إلا كان له الأولوية في طرح مشكلته والأولوية في معالجتها والإتصال بالمسئولين من أجلها ثم يأمر لهم بالمصروف ويستعجل لهم بذلك ولا يسمح بتأخير ما يجود به لهم إلى اليوم الثاني كما يحصل مع بقية الفقراء المستحقين للمساعدة .
وعندما سألته ذات يوم لماذا تعطي الأولوية لأهل تهامه فقط؟ قال لي : إن هؤلاء يتعبون في صنعاء والبرد في الشتاء يذهبهم أي يضرهم .
كما كان رحمه الله يحرص على مساعدة الكثير من الأسر الفقيرة الكريمة التي لا تسأل الناس إلحافا ، فكان يرسل رسله إلى بيوت هذه الأسر ويواسيها في افراحها واتراحها ولها مخصصات شهرية منه ، ناهيك عن الأعياد والمناسبات خاصة في رمضان ، وهذه الأسر ليست في الحصبة فقط أو في أمانة العاصمة بل أعرف أسراً كريمة كان رحمه الله يساعدها في محافظات عدة وفي بلدان عربية وإسلامية.
كان رحمه الله قد سن سنة حسنة قل أن نجد لها مثيلاً بين المسئولين فقد فتح باب منزله أمام المظلومين والمستضعفين الذين كانوا يفدون إليه من أنحاء اليمن ومن المملكة والخليج يطلبون إغاثتهم من مظالم مختلفة فيتدخل بما له من مكانة وثقل بعد أن يتأكد من صحة المظلمة فيمضي حتى ينهي تلك المظلمة مهما أخذت من وقته ، أذكر ذات مرة أن شخصاً جاء في مظلمة وفي وقت لا يجوز فيه الزيارة شرعاً لأنه من العورات الثلاث فقلت له لماذا تستقبل هذا الشخص في مثل هذا الوقت ويمكن إستقباله في وقت آخر فقال رحمه الله : ومن يقدر على رد فلان . ) ..
مواقف خالدة لايمكن سردها ضمن موضوع واحد ، لكن مايهمني الحديث عن الراحل في ذكرى وفاته الثامنة هو دوره في خدمة اليمن في مراحل صعبة وعصيبة وهنا اورد دوره في اعادة العلاقة مع الشقيقة الكبرى المملكة العربية السعودية بعد ان وصلت الى القطيعة نتيجة موقف اليمن من احتلال العراق للشقيقة الكويت وما نتج عنها من احداث عاصفة لازالت المنطقة تعاني من نتائجها الى اليوم ، كان الراحل يجيد التوازنات في العلاقات ويعمل على الحفاظ على العلاقات المتينة مع الدول التي لها مساهمات بدعم اليمن وعلى رأس تلك الدول المملكة العربية السعودية ودولة الكويت ..
دور الشيخ الاحمر بإعادة العلاقات اليمنية السعودية :
تأثرت العلاقات اليمنية السعودية نتيجة موقف الرئيس السابق على عبدالله صالح الداعم للرئيس العراقي السابق صدام حسين بإحتلال دولة الكويت وهو الموقف الذي يعتبر عملا مضادا للسعودية التي صدمت بذلك الموقف الذي لم يراعي دور السعودية الشريك الاساسي في دعم التنمية باليمن ، نتيجة موقف علي صالح جمدت السعودية علاقتها باليمن لاكثر من خمس سنوات وقد تجسد موقف السعودية من علاقتها باليمن اثناء حرب اليمن 94 والتي اعلنت السعودية موقفها الداعم لانفصال الجنوب عن الشمال من خلال دعمها لرئيس اليمن الجنوبي السابق علي سالم البيض بشكل واضح وعلني ، وهذا الموقف يعد تعبيرا عن مدى التدهور في العلاقات اليمنية السعودية والتدهور السلبي الذي اصاب الجانب التنموي بالشلل التام نتيجة توقف المساعدات السعودية والخليجية وهو الشيء الذي ادركه الراحل الشيخ عبدالله الاحمر وقرر على اعادة العلاقة بين اليمن والسعودية من خلال توظيفه لمكانته لدى قيادة المملكة ( للعلم علاقة الشيخ الراحل تأثرت مع قيادة المملكة مع حرب 94 ولم تتأثر العلاقة في حرب الخليج ) وكانت محاولة الشيخ عبدالله بفتح خطوط مع قيادة المملكة صعبة ومستحيلة نتيجة صدمة المملكة بموقف اليمن ، الا ان الشيخ الراحل فضل خوض تلك المهمة من اجل اليمن وليس من اجل علي صالح وقد تفاجئ علي صالح بمساعي الشيخ الاحمر التي تكللت بالنجاح ..
كنت اعلم بالنتيجة التي حققها الشيخ عبدالله في هذا الجانب ونجاحه بترميم العلاقات المتصدعة بين اليمن والسعودية لكن لم اكون على اطلاع كافي بالتفاصيل فاتصلت بأحد الدبلوماسيين ( الاستاذ محمد المأخذي وزير مفوض ) الذي كان يرافق الشيخ عبدالله خلال الزيارات الخارجية ولسنوات طويلة وكان حاضرا وشاهدا على مساعي الراحل بمهمة اعادة العلاقات اليمنية السعودية التي بدأها من المملكة المغربية اثناء تواجد الامير الراحل سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله هناك ، وقد استغل الشيخ علاقته ومكانته مع القيادة المغربية وعمل على جس النبض من خلال الديوان الملكي المغربي بعد لقاء جمعة بالملك المغربي الراحل الحسن الثاني الذي بدوره كلف مستشاره السياسي بطرح مقترح الشيخ عبدالله على الامير سلطان ، ونظرا للعلاقة القوية التي كانت تربط الامير سلطان بالشيخ الاحمر وافق على الفكرة ومن خلال اجتماع ثنائي بينهما في المغرب قال الامير سلطان للشيخ الاحمر سأنقل المقترح للملك فهد رحمه الله وعليك ان تقوم بالتوجه الى الرياض وسأكون داعما لموقفك ، هكذا نقلها لي الوزير المفوض ، اثناء تواجد الشيخ بالمغرب تلقى اتصالا من السفير السعودي هناك بالترحيب بزيارته للسعودية ، ورغم ان العلاقات كانت سيئة بين البلدين فالدعوة للشيخ الاحمر كانت لشخصه وليس بصفته الرسمية وتوجه الى مدينة جدة وتفاجئ بإستقباله بشكل رسمي من الجانب السعودي وتم استضافته بالقصر الملكي بجدة ، ثم قام الديوان الملكي السعودي بإرسال طائرة ملكية من الرياض الى جدة لنقل الشيخ الاحمر الى الرياض وتم استقباله بمطار الرياض استقبال ملكي وتم اخذ الشيخ بموكب رسمي من المطار الى قصر الملك مباشرة ، الذي استقبله استقبال رسمي مرحبا به وقد وضع الشيخ عبدالله قضية علاقة السعودية باليمن امام الملك بكل وضوح وصراحة وقال الشيخ للملك السعودي موقفكم يعاقب الشعب اليمني وليس علي صالح ، انتهى لقاء الملك بالشيخ بنتائج ايجابية بوعد الملك بإعادة النظر بموقف المملكة من علاقتها باليمن ، وفي ختام اللقاء طلب الشيخ عبدالله الاذن من الملك بمغادرة المملكة الى اليمن فرد عليه الملك " يجب ان تنتظر صاحبك سيكون هنا بعد يومين " وهو يعني الامير سلطان فهو المكلف بدراسة الموقف فيما يتعلق بالعلاقة السعودية اليمنية لانه كان المسئول عن ملف اليمن ، فقرر الشيخ الاحمر الانتظار ، وعاد الامير سلطان من زيارته للمغرب والتقى بالشيخ الاحمر وجرى حديث طويل بينهما وتحت اصرار ورغبة الشيخ الراحل بضرورة اعادة العلاقة بهدف اعادة تمويل المشاريع التنموية ودعم الميزانية ، واثناء تبادل الحديث بين الاميرسلطان والشيخ عبدالله قال الامير هل تضمن صاحبك " يقصد علي صالح " فرد عليه الشيخ عبدالله بقوله " هوعصيدكم متنوها " في اشارة لدعم المملكة لتولي علي صالح الحكم ، وهنا يجب التذكير ان الشيخ عبدالله الاحمر كان معارضا لتولي الحكم في اليمن أي شخصية عسكرية وكانت مساعيه تتمحور حول نقل الحكم الى شخصية مدنية وقد ذكر الشيخ الاحمر الامير سلطان بموقفه هذا اثناء محاولة الجانب السعودي طلب دعم الشيخ الاحمر لتولي صالح فإعتذر رغم انه كان متواجد حينها في المملكة ..
كلام كثير نقله لي الوزير المفوض عن تلك المهمة ، وعن فقدان قيادة المملكة بعلي صالح نظرا لمراوغته وعدم الوفاء بالحفاظ على توطيد العلاقة بين البلدين ، الا ان الشيخ الاحمر اقنع قيادة المملكة بأن اعادة علاقة السعودية باليمن هو من اجل الشعب اليمني الذي يكن للملكة كل الود والاحترام والوفاء ، نجح الراحل بإعادة علاقة السعودية باليمن ، وعلى اثر ذلك اعادة السعودية تمويلها لبرامج التنمية التي توقفت لاكثر من نصف عقد ...
اوردت هذا الموقف في الذكرى الثامنة لرحيل هذا الحكيم " كنموذج " عملي من الشيخ الاحمر الذي عمل من اجل اليمن وسخر كل علاقاته ومكانته مع زعماء الدول العربية والاسلامية لصالح اليمن ، ولم يكون هذا الموقف هو الوحيد للشيخ عبدالله ، بل هناك مواقف اخرى مع دول شقيقة وصديقة قام الراحل بإستغلال تلك المكانة والعلاقة الطبية لصالح اليمن وقد وعدني الوزير المفوض بإطلاعي على تفاصيل منها في وقت لاحق ..
غياب الشيخ عبدالله الاحمر رحمه الله لم يكون غيابا عاديا رغم انه الحاضر في قلوبنا من خلال بصماته في الجوانب الاجتماعية والخيرية والانسانية التي لايستطيع احد انكارها ، الا ان المرحلة التي مرت بها اليمن بعد غيابه ، انعكس ذلك على الاستقرار السياسي والعلاقات الداخلية ، وكشفت احداث السنوات الماضية وحتى هذه اللحظة ان اليمن وخاصة القيادة السياسية " حكم ومعارضة " تفتقدر للشخصية الوطنية التي يقف الجميع احتراما لها ليس لشيئ وانما لصدق المساعي ونضوج الرؤية والعمل على تجنيب البلاد الدخول الى المجهول الذي حذر منه الراحل قبل وفاته ، فحكمته وحنكته وخبرته جعلت منه الطبيب الاول لحل المشاكل والخلافات وتوازنه ومعرفته بمواضع النجاح والخلل ..
الوضع الحالي الذي وصلت اليه اليمن ناتج عن قراءات وتقديرات خاطئة من كل الاطراف وجميعنا يذكر موقف الشيخ عبدالله من ترشيح علي صالح للانتخابات الرئاسية عام 2006 م وهو موقف مخالف لموقف حزب الاصلاح الذي يترأسه الشيخ عبدالله وكان لكلمته المعروفة " جني نعرفه ولا إنسي ما نعرفه " ارتباط قوي بين النتائج وما سيئول اليه الوضع في حال فاز منافس علي صالح ، بعد وفاة الشيخ الاحمر وبعد ماوصلت اليه اليمن من تدهور عرف الجميع ماذا كان يعني بكلامه هذا ، وان موقفه ليس من فراغ او لحاجات اخرى غير الحفاظ على استقرار اليمن حتى تتهيأ الظروف المناسبة للتغيير ..
رحيل الشيخ الاحمر هو رحيل حكيم وسياسي ومصلح وانسان ورجل الخير ورحيل لكفة الميزان التي اختل بسببها الوضع ورجحت كفة الانهيار والصراع والاحتراب ، انا على قناعة تامة ( لو) كان الشيخ الاحمر موجودا فلن يصل الوضع باليمن الى هذا المستوى من الانهيار وغياب الاستقرار والاستقواء بالسلاح من قبل كل طرف ، هذا مايجعلنا نعيد لذاكرة الناس عن اثر غياب الشيخ عبدالله الذي وهبه الله من القلب الكبير والأعصاب القوية والعقل الرصين ما جعله قادراً على التغلب على الكثير من المواجهات سواء ما كان منها في محيطه القبلي أو السياسي وما إلى ذلك من الشئون الاجتماعية والثقافية والتاريخية ، اضافة الى اسهامه بتبني ودعم قضايا الامة العربية والاسلامية بروح وطنية عربية اسلامية .. لا نبالغ اذا قلنا ان رحيله تحول الى رحيل للحكمة والاخلاص والشجاعة والاستقامة والثوابت الوطنية للثورة والجمهورية والوحدة والديمقراطية ...