2015-07-27 الساعة 05:45م
ثمة حرب كبيرة في اليمن بلا جبهة حرب واضحة. في التاسع عشر من مارس، هذا العام، قصفت مقاتلات تتبع الجيش المؤيد للحوثيين قصر الرئيس هادي في عدن، العاصمة المؤقتة. كانت تلك آخر مرة تقلع فيها المقاتلات، وإلى الأبد. فبعد سبعة أيام، بالتمام، سيطرت مقاتلات تحالف عربي تقوده السعودية على الأجواء ودمّرت القوة الجوية في اليمن بالكامل.
انقسم اليمن إلى مناطق لا يُسمع فيها سوى أصوات محركات طائرات التحالف، وأخرى لا ترى سوى ماسورات مدافع الحوثي. وتمايزت المواقف في الداخل، فصار التحالف عدواناً لدى جهة ومخلّصاً لدى جهة أخرى "صنعاء وعدن بالترتيب". جلبت حروب الحوثي الداخلية قوات من خارج الحدود، وهذا ليس استثناء تاريخياً. في منتصف هذه الحرب، بعد أكثر من 100 يوم، لم يعد الحوثي قادراً على أن يحدّد خصومه ولا أن يختار مكان المواجهة. راح يصدر البيانات عبر "اللجنة الثورية العليا" عن العدوان الصهيوني والأميركي، وبقيت الحرب مستعرة في أماكن أبعد ما تكون عن إسرائيل وأميركا وسقط له قتلى ربما لم يسمعوا بأميركا قط.
يواجه الحوثي في مدن الجنوب "المقاومة الجنوبية". وهي مقاومة تتشكل طليعتها من تشكيلات مدنية وعسكرية تصبو، منذ العام 2007، إلى استعادة الدولة الجنوبية بصيغة ما قبل العام 1990. في مواجهة المقاومة الجنوبية يتحرك الحوثي أمام مقاومة صلبة، وينزف باستمرار. فقد حشد لأجل السيطرة على الجنوب آلاف الأطفال وأفراد الجيش المنحل ومقاتلين متعاقدين. جيش الحوثي يخوض، جنوباً، حرباً في أرض لا يعرفها ويواجه مقاومة يصعب اختراقها. فوق سماء الأراضي الجنوبية تحضر قوات التحالف العربي على نحو مكثّف وتهاجم على مدار اليوم. سقطت قذائف صديقة على تجمّعات سكّانية في لحج، الجنوب، غير أن تلك الأخطاء لم تدفع الجنوبيين إلى إدانة التحالف العربي. فضلاً عن ذلك راح الحوثيون في صنعاء ينعون، بكل السبل، قتلى التحالف العربي في الجنوب ويمطرون من نجا بالكاتيوشا والمدفعية.
في الوسط والشرق يواجه الحوثي مقاومة ذات طبيعة خاصة: مذهبية في الأساس. منذ كان الحوثي لا يزال في صعدة، وحتى بعد أن صار جيشه يسيطر على معظم أراضِ الشمال استمر الرجل في القول إنه اضطر لإنشاء حركة مسلّحة تحقيقاً لمُراد الله وندائه. وفي خطابه الأُم، ديسمبر 2014، قال علانية إن الأمة الإسلامية وقعت في أزمة تاريخية لأنها تخلّت عن الولاية. وراح، أكثر من مرّة، يعرّف الولاية باعتبارها نظيراً للنبوّة ووارثاً لها. تنتهي خطابات الحوثي عادة إلى استنتاج واحد سبق أن لخصته صحيفة الشارع المحلّية قبل عام من الآن: أنا أحق بالحكم. لكنه يعزو ذلك الحق، على الدوام، إلى نظرية دينية. هذه الأجواء الحوثية الخاصة منحت الحرب رائحة دينية، زاد عليها الحوثي في خطاب رمضان بالقول إن أصحابه يخوضون جهاداً مقدّساً، ووعد رجاله بأن يدعو لهم آناء الليل وأطراف النهار.
التمظهر المذهبي للحرب صعّب من مهمة الحوثي في مدن الوسط والشرق. والصورة المناطقية للجبهات جنوباً منحت الحرب وقوداً إضافياً ودفعت الخطاب الجنوبي إلى وصف الحرب بأنها "حرب استقلال". أما التحالف العربي فيشن حرباً لا هوادة فيها ضد تشكيلات عسكرية يعتقد أنها ليست سوى "بروكسي" إيراني يهدف إلى زعزعة ملكيّات الخليج من الجهة الجنوبية.
يخوض الحوثي، وفقاً لهذا العرض، ثلاثة حروب مختلفة ولا يمكنه أن يكسبها جميعاً. لسنا متأكدين ما إذا كان الحوثي يفهم طبيعة الحرب التي يخوضها، غير أنه من المؤكد أن الرجل لا يعدّ قتلاه. قبل صنعاء بحوالي 50 كيلومتراً كان جيش الحوثي لا يزال يتكون، بالأساس، من المقاتلين الحوثيين. ذهبت مصادر محلّية إلى تقديرهم بالعدد 30 ألفاً. لكنه، بعد دخول صنعاء، استطاع أن يحصل على كل الجيش اليمني وبالأخص قوات النخبة المؤيدة للرئيس السابق صالح. تلك تتكون من حوالي 40 لواءً. أمام الهزيمة الشاملة التي مني بها كل اليمنيين في مواجهة الحوثي، بادئ الأمر، أعلن شيوخ القبائل/ العشائر في الشمال تأييدهم للحركة الحوثية وهتفوا بشعارها. لم يكن ذلك كافياً بالنسبة للحوثي فطلب منهم عربونَ ولاء. كالعادة، لا يطلب الحوثي سوى المقاتلين. منذ سقوط العاصمة وحتى الإذن ببدء عاصفة الحزم، ستة أشهر، صار الحوثي متخماً بالمحاربين. حتى إنه، في غضون ذلك، أجرى مناورة عسكرية على حدود المملكة السعودية. وتمنّت صحيفة تابعة له أن يفهم السعوديون الرسالة. أما النشيد الأبرز للمجتمع الحوثي، إذا جاز لنا استخدام هذا التعبير، فكان ذلك الذي يعلن استعداد الجماعة لخوض "حرب كبرى عالمية".
مؤخراً كتب عيدروس النقيب، المفكر السياسي اليساري المعروف، عن تجربته مع اللجان الرئاسية التي ذهبت إلى صعدة إبّان حروبها. قال النقيب إنه مر بمساحات واسعة من الأرض كانت مسوّرة. وعندما سأل مرافقيه، والأدلّاء، أخبروه إنها محجوزة للشهداء وإنها لا تزال فارغة. كان الحوثي يستعد للحروب، ولم يصدر عن الرجل وجماعته خلال ما يقرب من عشرين عاماً سوى حديث الحروب والأعداء. لقد أعدّ كل شيء، الأطفال والمقابر والأناشيد. حتى الآن خاضت جماعة الحوثي ثمانية حروب كبيرة، وعشرات الحروب الصغيرة. لكنه مؤخراً، بعد أن صارت تشكيلاته العسكرية ممتدة على مساحات شاسعة، اكتشف لأول مرة، ربما، معنى الحرب.
ثمّة حرب هجينة في اليمن، متعددة الاتجاهات والخصوم والنظريات. يخوض الحوثي تلك الحرب بآلة واحدة ومنطق واحد. غير أنه يواجه آلات عديدة وخصوماً متعدّدين وخطابات متنوّعة. وما يجعل تلك الحرب أكثر تعقيداً هو أن الحوثي لم يعد قادراً على كسب المعارك ولا الانسحاب منها. تمتلك إيران، كما تشير عشرات التصريحات والخطابات الرسمية الإيرانية، نصيب الأسد في قرار الحوثي. إيران أرض بعيدة ولا يمكنها أن تشعر بهزائم اليمنيين من كل الأطراف، ولن تتضرر من انهيار اليمن. على العكس من ذلك: تعتقد إيران إن انتصار الحوثيين سيشكّل نصراً لها، وسيكون بمقدورها أن تهيكل ذلك النصر لصالح معاركها الدائمة مع السعودية. أما انهيار الدولة في اليمن وتفكك المجتمع فيُرى إيرانياً مكسباً من نوع آخر. إذ ستكون السعودية عارية في مواجهة خطر يتشكّل من دولة منحلة قوامها 25 مليون. ذلك الضغط الكبير الذي ستواجهه السعودية، كما ستنشط فيه أيادي إيران، سيشكل أيضاً نصراً من نوع خاص للأخيرة.
هذا اللون من الحروب الهجينة، على النحو الذي نشهده في اليمن والعراق، يجعل من عودة الدولة الوطنية أمراً شديد الصعوبة. إذ تكمن الحرب وراء جهات وواجهات وتناقضات لا حصر لها، أو "حرب القطاعات" إذا استعرنا تعبيراً لتوماس فريدمان. تلك الحالة التي، كما يقول فريدمان، يعرض فيها كل قطاع خيارين اثنين على الآخرين: إما أن أحكمكم أو أموت.