2015-09-20 الساعة 09:18م
منذ دخل الحوثيون محافظة عمران، منتصف العام الماضي، كان واضحاً أنهم دحرجوا حجرة كبيرة ومشتعلة.
بعد سقوط عمران زارها هادي، وكانت أول زيارة رسمية له كرئيس للجمهورية إلى تلك المحافظة، من هناك هز رأسه بثقة قائلاً أمام العدسات: لقد عادت عمران إلى حضن الدولة.
كان هادي يريد أن يغيض خصماً له من تلك المحافظة، وهو رجل أعمال وسياسي في مطلع الأربعينات من العمر، ذلك كل ما خطر ما جال في بال الرئيس وهو يرى بوابة صنعاء الشمالية، عمران، تتهاوى تحت أقدام جماعة تخوض «حرب بروكسي» في جنوب الجزيرة العربية.
ولم يمر سوى شهرين حتى كانت صنعاء كلياً في قبضة الميليشيات الحوثية والوحدات العسكرية المساندة لصالح، وبينما كانت تلك التشكيلات المسلحة الهجين تقتحم العاصمة كان هادي يرفض الرد على تليفون وزير داخليته، بحسب رواية الأخير، وكانت أعلى هيئة عسكرية برئاسة وزير دفاع هادي تصدر بياناً صارماً يطالب الجيش بأن يلزم ثكناته وألا يتدخل في ما يجري في العاصمة.
سكنت الأمور قليلاً، أو استكانت، وتدفق الحوثيون إلى كل شوارع العاصمة كلها ونصبوا النقاط والشعارات، ثم ذهبوا إلى هادي وتحاوروا معه.
خرج الأخير، وقد استراح للغزاة ظناً منهم أنه سيكون رئيساً للفاتحين، وقال في واحد من أكثر خطاباته بؤساً: إن صنعاء لم تسقط، ولن تسقط. لكن الحوثيين رأوا، بعد زمن قصير، أنه من الأفضل أن يضعوا الرجل وعشيرته تحت الإقامة الجبرية، ويمنعوا عنه الزيارات السياسية.
كانت هذه الصورة هي النهاية الدرامية الأبرز لآخر سلسلة ممتدة من الحوارات الوطنية، تلك التي استغرقت نحو أربع سنوات برعاية جهات دولية كثيرة تأتي الأمم المتحدة على رأسها.
مع نهاية عقد السبعينيات وصل صالح إلى السلطة، وعندما نظر إلى الخلف رأى نهراً طويلاً من الدم ينتهي بالعام 1962، وكانت الحوارات تسيل على جانبيه وترافقه وترعاه.
ونظر إلى الأمام فلم ير سوى ظل طويل لتلك الدماء، مرعي بالحوارات أيضاً، في خطاباته المبكرة دعا إلى الحوار الوطني، واستشهد كثيراً بالآيات القرآنية التي تدعو إلى الوحدة والعمل المشترك.
استمرت عملية الحوار الوطني ثلث قرن من الزمن، كان صالح يفتتحها ويختمها محولاً إياها إلى «عملية حوار»، أي متتالية عملياتية تنتج ذاتها ولا تخلق نتائجَ عملية، كما ليس بمقدورها أن تغير من خرائطه الخاصة: تلك الخرائط التي تؤسس لمُلك دائم ينتقل في السلالة.
في 28 أكتوبر 2010، أي قبل اشتعال ثورة فبراير بنحو مائة يوم، مزق صالح الوثيقة النهائية التي لخصت حواراً سياسياً امتد لشهور، وكان يمثله فيه نائبه هادي وعقله السياسي الإرياني.
أنهى صالح آخر موجات الحوار الوطني، كعادته، ثم دعا لجولة أخرى.
كان الحوار الوطني، في زمن صالح، هو الخيط الرئيسي للحكاية اليمنية، لكن الفوضى والعنف والحروب لم تتوقف قط على جانبي ذلك الخيط، وأحياناً كان الحوار يزاح إلى الأطراف ويحضر خيط الدم إلى المركز، ظل الحوار والدم يتناوبان بين الطرف والمركز محدثين تنويعات جنائزية في التاريخ اليمني المعاصر، إلى أن انتهت تلك السيرة بمشهد انهيار اليمني كلياً، الدولة والمجتمع.
يتشاءم اليمنيون من شهور الخريف ودعوات الحوار الوطني؛ فبعد حوار صعب مع شركائه الجنوبيين، بين العامين 93 و94، برعاية دولية- عربية، ذلك الحوار الذي أفضى إلى واحدة من أشهر وثائق السياسة اليمنية «وثيقة العهد والاتفاق»، ألقى صالح خطاباً من «ميدان السبعين» استهله بـ «كتب عليكم القتال وهو كره لكم».
افتتح ذلك الخطاب حرباً أهلية شديدة الانحطاط في صيف 94م، كسب صالح الحرب وراح يذكر، دائماً، بالخسارة الاقتصادية التي نتجت عن تلك الحرب. في خطاباته اللامعدودة كان يقول إن الحرب استهلكت 12 مليار دولار، كان ذلك هو الجانب الأسود الوحيد للحرب، كما يفهمه صالح، فعندما التقيت أحد رجاله العسكريين في القاهرة، أثناء حرب صعدة السادسة، سألته: هذه الخسارات الفادحة التي تحدث كيف ستفعلون حيالها؟
لكن الرجل تبسم، وقال واثقاً: لا توجد خسارات، حتى الرصاصة الواحدة نحصل على قيمتها، وهناك من يدفع خساراتنا. كانت سيدة عجوز، قريبة له، تجلس إلى القرب منا وتدخلت متسائلة «والأرواح يا ابني؟» ولم يرد عليها الابن.
لكن المرة الأخيرة التي مزق فيها صالح وثيقة حوار وطني أعقبتها ثورة فبراير. صار صالح عارياً، وكانت نهايته مدوية. انتهى كملك، بالفعل، وصار زعيم عصابة يحدث الكثير من الخراب، وليس ذلك بالظاهرة التي يصعب فهمها، رغم ذلك بقي قادراً على المناورة والدعوة لمشاريع حوار جديدة. ومن الأسفل كان يمكن رؤيته عارياً، ومخادعاً، بلا درجة من المصداقية.
لم يكن يمضي وقت قصير حتى آلت الثورة إلى حوار، وانتهى الحوار بوثيقة على هيئة مبادرة خليجية سرعان ما انقلب عليها صالح.
عاد اليمنيون مرة أخرى، ضمن محاولاتهم المستمرة لاستخلاص دولة صالحة للعيش، ودخلوا في عملية جديدة للحوار استمرت زهاء عام كامل برعاية أممية، منجزين مسودة وطنية من نحو 1800 مادة ومقترح.
ما إن وقع المتحاورون على الوثيقة الأخيرة، أمام تصفيق حار من الأصدقاء، حتى قام صالح بعمليته الأخيرة: اقتحام صنعاء عبر تشكيلات الحرس الجمهوري المساندة له، وتحت غلاف صلب من الحوثيين، عملية الاقتحام تلك، ولم تحدث فجأة مهد لها رجال ثلاثة عبر تعبيد كل الطرقات: جرت إلى الحرب الأكثر ضراوة وفتكاً في تاريخ اليمنيين.
أما الرجال الثلاثة فكان الرئيس هادي أحدهم، وهو الرجل الذي حاز ثقة اليمنيين في عملية انتخابية كانت شبيهة بحفلة طرد زار، بدت فيها عيون اليمنيين كأنها تتوسل أملاً أخيراً سرعان ما سمحت له أيادي الرئيس الجديد بالتبدد.
لم تكن اليمن الدولة التي استخدمت فيها كلمة الحوار على نحو تاريخي، بل الدولة التي دارت فيها طاولات الحوار بالفعل لما يقرب من نصف قرن من الآن.
عملياً، وتاريخياً، تكون المراحل التالية للحوار اليمني هي الأكثر ضراوة، وبؤساً.