2018-05-31 الساعة 11:47م
عرفت دراسات «الأدب المقارن» فكرة «النماذج الأدبية» التي تعددت إلى «نماذج إنسانية» مثل «نموذج البخيل» كما عند الجاحظ وموليير، و»نماذج أسطورية» مثل «نموذج الشيطان»، كما في «فاوست» غوته، وهناك مئات النماذج الإنسانية الأخرى مثل: الفلاح والفارس والشيخ والكاهن والبغي وغيرها، ونماذج أسطورية مثل بروميثيوس وبيغماليون ونرسيس وسندباد وغيرها.
معلوم أن فكرة النموذج متعالية على معطيات الزمان والمكان والعرق. بمعنى أن البخيل يكون في كل الأزمنة والأمكنة والأمم من دون أن يختص بمكان أو عرق معينيين. وفي النص الديني- القرآن مثلاً – ترد نماذج متعددة يقوم النص ببنائها لمقاصد محددة، مثل «أخذ العبرة أو اتخاذ القدوة»، بغض النظر عن أعراق تلك النماذج، غير أن قراء النص يحاولون- أحياناً- أن يجعلوا «النموذج» خاصاً بالعرق، ومتعلقاً به، أثناء تلقي النصوص.
عندما يتحدث النص الديني عن أقوام معينة عملت عملاً صالحاً أو غير صالح، فإن القصد إبراز قيمة العمل، أو إعلاء درجة النموذج، لا الحديث عن النموذج مرتبطاً بأقوام بأعيانهم. لكن مشكلة المتلقين للنصوص، أنهم أحياناً يخلطون بين النماذج والأعراق، كما ذكر، فيسحبون عمل السابقين من العرق- خيراً أو شراً – على اللاحقين من العرق ذاته، ويحملون الأبناء أوزار آبائهم التي لم يجترحها الأبناء، ويُكسبون اللاحقين مزايا لم يفعلوها لمجرد أن أسلافهم فعلوها، ومنشأ ذلك إلى ما ذكرناه من خلط بين النموذج والعرق لدى قراء النصوص، ومؤولي النماذج.
رسم القرآن – على سبيل المثال- لبني إسرائيل «نماذج» مختلفة في حالات القوة والضعف والخير والشر، آخذاً مغزى عميقاً في وضع لوحة تاريخية أمام «الأمة المسلمة الجديدة»، في إشارة إلى أن الأمم تسير المسارات ذاتها، بغض النظر عن أعراقها، وفي ملمح لإرادة وضع «نموذج» للاقتداء إيجاباً، والتجنب سلباً. ولم يكن القرآن ليهتم ببني إسرائيل كعرق أو سلالة أو كأبناء نبي، بل اهتم بوضع «النموذج الإسرائيلي» أمام المسلمين، بغض النظر عن «العرق الإسرائيلي»، غير أن تعاطي بعض المسلمين – غالباً- اتسم كما ذكرنا بخلط «النموذج» بالعرق فألقوا على اليهود مثالب سابقيهم، في حين ألقى بعض اليهود على الإسرائيليين المعاصرين مناقب أسلافهم، وهذا يعني أن النظر حصر في العمل الذي عُمِل- خيراً أو شراً- على أساس أنه تم على يد «سلالة عرقية» لا نموذجا إنسانيا، وهنا تضيع العبرة ولا يتم تعلم الدروس.
وللتوضيح أكثر، أشار القرآن إلى بني إسرائيل بقوله «ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم، تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان». هذه الآية تخبر عن نموذج لا عرق، ومعنى ذلك أن جريمة «الإخراج من الديار» متعلقة بـ»نموذج القاتل الظالم»، الذي يمكن أن يكون في أي عرقية، وليست خاصة بسلالة بني إسرائيل، وهذا هو قصد النصوص المتسق مع مقاصد الدين الإنسانية. وتأتي الإشكالية عندما يجعل بعض المسلمين تلك الصفة تخص الإسرائيليين أو اليهود كعرق أو ديانة، مع أن العرب كعرق والمسلمين كديانة انطبقت اليوم عليهم الآية «تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم».
إن النموذج الإسرائيلي اليوم في تعاطيه مع شعبه هو أقرب إلى النموذج الإسلامي في كيفيات تعاطي الحكام مع شعوبهم، لكن النموذج الإسرائيلي اليوم في تعاطيه مع الفلسطينيين أقرب إلى «النموذج العربي» قبل الإسلام في غزو الديار واحتلال «مساقط الماء والكلأ»، وهذا يؤشر إلى تبادل الأدوار بين الأعراق البشرية في تلبسها لحالات النماذج الإنسانية المختلفة.
هناك بالمقابل نصوص دينية كثيرة حول «أهل البيت» ومكانتهم في الإسلام، وقد تحدث القرآن عنهم لإرادة التعامل معهم كنموذج إنساني لا سلالة عرقية، غير أن أنسالهم يحاولون اليوم سحب مناقب السابقين عليهم، والاستفادة من تراثهم على أساس أن السابقين ميراث اللاحقين، فحين وصف القرآن «أهل البيت» بقوله «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت، ويطهركم تطهيرا»، يحاول بعض منتسبيهم- اليوم- أن يجعلوا الآية منسحبة عليهم على أساس «الانتماء العرقي»، حتى إن مارسوا أفعالاً لا تتفق ومفهوم «التطهير» في الآية، ومرجع ذلك أنهم نظروا إلى أهل البيت كسلالة عرقية أو أسرة لا كنموذج إنساني أو فكرة، وهذا مخالف لمراد النبي الذي قال «سلمان منا أهل البيت»، رغم «فارسية» سلمان، في إشارة إلى تعاطي النبي مع الفكرة لا الأسرة، في هذا الخصوص.
إن الإشكالية التي يقع فيها من يتعاطى مع الأعراق لا النماذج أنه يستمر في قدح السابقين – من عرق غير عرقه – بسبب مثالب وقع هو فيها، ويستمر في مدح السابقين- من عرقه – بسبب مناقب لم يعد يؤديها، ومرجع ذلك أن صاحب هذا المنحى نظر إلى «العرقية» لا إلى «النموذجية».
الحقيقة أن الأعراق تتبادل النماذج، كما ذكر، ولكن من دون الاعتراف أو من دون الشعور بذلك، لأن تلك الأعراق تجعل الأعمال التي بنت تلك النماذج من نصيب عرق بعينه، لا نموذجا في حد ذاته، مع أن النماذج منفصلة تماماً عن الأعراق ولا علاقة لها بالسلالات.
وللتوضح أكثر هناك إشكالية لدى الفكر السياسي الإسلامي، تأتي من بعض النصوص في الحديث التي نصت على أن «الأئمة من قريش»، وقد ورد في حديث السقيفة أن الخليفة الثاني أبا بكر احتج على الأنصار الذين طالبوا بالخلافة بأن «العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش»، وكان أبوبكر براغماتياً في ذلك، لأن العرب في ذلك الحين كانت لا تعرف السيادة إلا في النموذج القرشي، لكن أبابكر لم يقل ذلك على اعتبارات عرقية، أو لنسب قريش أو قربها من النبي، ولكن لأن هناك مجموعة خصائص سياسية واقتصادية تؤهل «قريش القرن السابع الميلادي» لتولي السلطة.
ولكي نفصل أكثر يمكن القول إن «القرشية» نموذج، وليست عرقاً، بمعنى أن أي عرق أو قبيلة أو مجموعة بشرية أو حزب سياسي تنطبق عليه اليوم خصائص «القرشية» فإنه أهل للحكم أو «الخلافة والإمامة»، فيما يخرج أنسال قريش من الحكم في حال عدم انطباق خصائص «النموذج القرشي» عليهم، رغم انتسابهم عرقياً لقريش، لأن «القرشية» المقصودة نموذج لا عرقا، وهذا الأمر يمكن أن ينطبق على نموذج «الهاشمية»، أو نموذج «أهل البيت»، كما مر هنا.
إن التركيز على فكرة «النماذج» يحرر العقل المسلم من الارتهان لموروث «الأعراق»، ويخرجه من التقوقع العنصري إلى رحابة إنسانية واسعة، لا تحصر الأعمال الصالحة ولا الأعمال غير الصالحة في عرق أو سلالة بعينها، وهذا يهيئ لربط «المناقب» و»المثالب» والنجاح والفشل بالقيم والأفكار والأعمال السائدة لا بالأجناس والسلالات البائدة. ثم إن التركيز على «نظرية النموذج» مهم لفصل الدين عن «الجين»، وضروري للنظر للإسلام على أساس أنه «فكرة» لا «أسرة»، الأمر الذي يحرر الإنسان المسلم اليوم من التعالقات العنصرية، المنطلقة من كون أعمالاً معينة – سلباً أو إيجاباً – مرتبطة بأعراق معينة، وهي فكرة تناقض جوهر الإسلام، كما هي مناقضة لجوهر المدنية والقيم الحضارية المعاصرة.
أخيراً: يمكن تلخيص هذه المقالة في الآية: «يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط، ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى، واتقوا الله، إن الله خبير بما تعملون»، حيث تركز الآية على النموذج/القِسط لا على العِرق/القوم، وهذه غاية العدل والإنصاف، وهذا منتهى التعاطي الإنساني.